تنفس التونسيون الصعداء في نوفمبر الماضي عندما هطلت كميات كبيرة من الأمطار التي تسببت في بعض الفيضانات، بعد ثلاث سنوات من الجفاف، وهو ما أثار قلق وانشغال الرأي العام بأزمة الماء التي يشكو منها عدد من الجهات في تونس، حيث تختلف من منطقة إلى أخرى في الحجم والمدة الزمنية والأضرار المترتبة عليها.
شهدت مناطق من ولاية المهدية (وسط تونس) انقطاعاً للمياه أدى إلى نفوق عدد كبير من الماشية؛ ما أدى إلى تواصل الاحتجاجات في مناطق متفرقة من عدة ولايات؛ حيث ظل الماء منقطعاً لمدة 7 أشهر، نفقت فيها الحيوانات ويبست فيها الأشجار، وهو ما اضطر المواطنين إلى البحث عن الماء وتجشم عناء جلبه من مسافات بعيدة عنهم في أوانٍ وأوعية بلاستيكية، وعلى ظهور الحيوانات، وأفرز ذلك احتقاناً كبيراً، وغضباً لدى الأهالي، سوّل لهم قطع الطرق، وإشعال الإطارات المطاطية، وهو ما اضطر السلطات التنفيذية للخروج من مكاتبها للتفاوض مع المحتجين لإنهاء الاحتجاجات.
وبعد الأمطار التي شهدتها مختلف المناطق التونسية نهاية عام 2018م، بلغت نسبة امتلاء السدود بتاريخ 11 يناير 2019م نحو 57%، ليصل حجم مخزون السدود ملياراً و265 مليون متر مكعب، وقد سجل مخزون السدود تحسناً ملحوظاً مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية، حيث كانت كميات المياه في الفترة نفسها تقدر بـ795 مليون متر مكعب، في حين أن طاقة استيعاب السدود تبلغ 2.2 مليار متر مكعب.
أسباب الأزمة
تشير الدراسات الميدانية إلى أن أزمة الماء في ذلك الحين لم تكن مفاجئة للخبراء، رغم أن نقص الأمطار في السنوات الثلاث الأخيرة زاد من استفحالها، علاوة على عوامل أخرى ساهمت بدورها في بلوغ الأزمة حدها المعلوم، ففي دراسة أعدت عام 2007م حذّر معدوها من أن تونس تتجه إلى الجفاف الشديد؛ ما يفرض ضرورة التخلي عن الغراسات غير المربحة اقتصادياً، وفرض طريقة السقي قطرة قطرة، لا سيما أن الفلاحة أكبر مستهلك للماء؛ حيث تستهلك 82%، في حين لا يمثل الماء الخاص بالشرب سوى 18% من نسبة الاستهلاك، وهو ما يعكس في إحدى صوره القدر الذي يحصل عليه الفرد في تونس من الماء والمقدّر بـ419 متراً مكعباً في السنة، وهو أقل من المعدل العالمي الذي يصل إلى ألف متر مكعب في السنة.
وفي هذا السياق، قال وزير الفلاحة (الزراعة) التونسي السابق محمد بن سالم لـ”المجتمع”: إن مجموع السدود التونسية، وخاصة سد سيدي سالم (وسط) وهو سد كبير، يمكن أن يعطينا مخزون 3 سنوات، وإن الاستهلاك للزراعة والشرب والسياحة والصناعة في حدود 200 مليون متر مكعب في السنة.
وللأسف، فإن سد سيدي سالم لم تتوافر فيه كميات من الماء إلا لحاجة أقل من سنة واحدة، أي نحو 180 مليون متر مكعب، ومن رحمة الله أن بقية السدود كانت تتوافر فيها كميات معتبرة وإن كانت دون المأمول؛ لأن كميات الأمطار في أقصى الشمال كانت دون المستوى المعهود، علاوة على أن نهر مجردة (شمال) لم تكن به كميات كبيرة، وهذا ما جعل تكلفة ضخ المياه من جهة عين دراهم وطبرقة (شمال تونس) كبيرة؛ لأن مياه مجردة لا تحتاج لضخ صناعي، كما هي الحال من عين دراهم وطبرقة.
كما تشير الإحصاءات إلى أن المجامع المائية تعاني بدورها من العديد من الإشكاليات، حيث تراجع عددها من 302 إلى 92 جمعية، بسبب مشكلات عدم خلاص الفواتير، وسوء الإدارة، وغياب إطار ينظمها.
وتسجل تونس عجزاً سنوياً يقدر بـ275 مليون متر مكعب، إذ تستهلك سنوياً 4845 مليون متر مكعب، في حين تبلغ مواردها المائية 4503 ملايين متر مكعب، ويقدر استهلاك القطاع الصناعي بأكثر من 400 مليون متر مكعب، والاستهلاك المنزلي نصف مليار متر مكعب، وهو يقرب من رقم نصف مليار متر مكعب التي نضبت من السدود التونسية بسبب نقص كميات الأمطار واستمرار الجفاف للسنة الثالثة على التوالي، وهو ما جعل مخزون السدود لا يتعدى 980.251 مليون متر مكعب، أي 37% من معدل استيعابها وهو ملياران و700 مليون متر مكعب، وقد خصصت الدولة 200 مليون دينار لصيف 2018م لمعالجة مشكلات التزود بالمياه الصالحة للشرب.
ووفقاً لبعض الأرقام الرسمية، فهناك نحو مليار دولار خسائر تتكبدها تونس من جراء الجفاف، حسب الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، ويزيد من خطورة الوضع، وفق وزير الزراعة التونسي السابق، أن 30% من شبكات وقنوات الري قد اهترأت بعد مضي أكثر من 30 عاماً على إنجازها، وهو ما يفسّر عمليات العطوب الكبيرة والخطيرة على السكان، لا سيما تلك التي تعبر من خلال الأحياء الآهلة بالناس، وتقدر تكاليف صيانة الشبكات المهترئة وفق بعض التقديرات بـ70 مليار دولار.
وإلى جانب غياب الصيانة، وعدم تجديد القنوات وشبكات المياه، هناك إشكال آخر يتمثل في عدم حفر آبار جديدة كافية وبعمق مطلوب، فزغوان -على سبيل المثال- معروفة تاريخياً بأنها مصدر للمياه، وبها معبد روماني للمياه، ومعروفة تاريخياً بأنها المزود الرئيس للعاصمة بالماء؛ ففيها بئر كبيرة تعطي 72 لتراً في الثانية، نقصت عام 2017م إلى 26 لتراً، وفي عام 2018م نزلت إلى 18 لتراً.
اقتراحات وحلول
وحلاً لهذه الأزمة -التي تضرر منها سكان العديد من مناطق البلاد ولا سيما في الوسط والجنوب والجنوب الشرقي، بل في المناطق التي تعد أحد مصادر المياه كجندوبة وزغوان، ومناطق أقصى الشمال التونسي التي يتوافر بها 450 مليون متر مكعب من الموارد السطحية المتاحة وغير المستغلة وهي تتوزع على 286 مليون متر مكعب بسد البراق و222 مليون لتر مكعب بالسد الكبير، و26 مليون متر مكعب بسد المولى، و69 مليون متر مكعب بسد سجنان- ينتظر الجميع موعد عمل 40 محطة مبرمجة لتحلية مياه البحر، وحفر آبار عميقة جديدة في المناطق التي تشكو انقطاعاً أو نقصاً في المياه، وفرض تزويد جيران أصحاب تلك الآبار وفق عقود قانونية بالماء سواء للزراعة أو الشرب على قاعدة «اسقِ ثم أرسل الماء لجارك»، وعلى قاعدة «الناس شركاء في ثلاث؛ الماء والنار والكلأ»، على أن يتحمل الجيران جزءاً من التكلفة وفق اتفاق مسبق برعاية الإدارة الرسمية، إضافة إلى مقاومة عمليات الربط العشوائي، واعتماد الطرق الحديثة في استهلاك الطاقة النظيفة وتقليص الطاقة المستوردة إلى حد الاستغناء عنها نهائياً.
ولا شك أن دراسة حاجيات المناطق التونسية يتم وفقاً للمعطيات المحلية لكل منطقة، مع الإسراع بإنجاز سد “القعلة” (وسط) الذي كان مخططاً الانتهاء من أشغاله في عام 2011م، فعندما تولت حكومة الترويكة السلطة عام 2012 و2013م لم تكن الدراسات مكتملة، وكان ذلك مفاجأة غير متوقعة لا سيما أنه تم العثور حينها على ممولين للمشروع؛ وهو ما ساهم في توالد الأزمة واستمرارها.
ومن المفارقات أن تعيش ولاية زغوان (غرب العاصمة تونس) التي كانت ولا تزال مصدراً للمياه لتونس ومناطق أخرى حالة انقطاع الماء لعدة أيام؛ لأن شركة الماء العمومية لم تأخذ الاحتياطات اللازمة لمثل هذه المسؤوليات وحقوق المواطنين الدستورية، وتحديداً الحق في الماء.
كما كان لتأخر إنجاز محطات تحلية المياه ومنها المبرمجة في صفاقس وجربة دور في الأزمة، مما يتطلب الإسراع في إنجاز مثل هذه المشاريع التي من المفروض أن تعمل الآن كسد القلعة حسب ما خطط لها سابقاً، برؤية استشرافية تدرك أن النقص ابتدأ منذ عام 2014م وليس عام 2016م كما يروّج البعض.
وكان لتأخر إنجاز الدراسات دور كبير في هذا التأخير؛ وبالتالي تفاقم الأزمة، وهي ليست أزمة طبيعية، بل إجرائية، كما يشير بن سالم، تتحمل بعض السلطات المسؤولية عنها، وتحلية المياه كحل إستراتيجي وممكن في تونس (1500 كيلومتر شواطئ) يحتاج بدوره لاستخدام الطاقات البديلة، لأن تحلية المياه بالوسائل التقليدية وبالطاقة المستوردة يكلف كثيراً، وبالتالي الوضع ليس كارثياً إذا تعاملنا معه بمسؤولية، ويوم تحل مشكلة الطاقة ستحل مشكلة الماء.