في فبراير 2017م لم يكن حدثاً ذا شأن بماليزيا أن تنقطع مياه الشرب عن بعض المناطق في ولاية بينانج الصناعية، هذا حدث أقل من العادي في أماكن كثيرة من العالم، لكن الجديد أن انقطاع المياه لم يكن بسبب الأعطال أو الصيانة، بل كان توفيراً للمياه التي أوشك مخزونها على النفاد، لم نتوقع مطلقاً أن مياه الأمطار التي تبلغ حد الفيضان، التي تُنفق عليها المليارات لتصريفها يمكن أن تتراجع لتصل حد الندرة بسبب شهور الجفاف التي لا تقارن بأي جفاف نعرفه في منطقة الشرق الأوسط، فحتى في موسم الجفاف لا تنقطع الأمطار أسبوعاً كاملاً.
لم تكن ولاية بينانج الولاية الوحيدة التي عانت في عام 2017م من نقص مخزون المياه، فقد نشرت «The Sun Daily” الصحيفة اليومية الماليزية أن احتياطي ولاية سلانجور من المياه العذبة وصل إلى صفر%، وعانى سكان الولاية لمدة 10 أيام كاملة قبل تدفق المياه من جديد.
ربما تكون النظرة السطحية المتعجلة إلى كميات الأمطار التي تسقط على الولايات الماليزية في طول البلاد وعرضها هي التي توحي على نحو خاطئ أنه من الصعب أن تكون تلك البلاد تعاني من مشكلة نقص المياه، إلا أن الحقيقة التي تتضح مع مزيد من البحث والتقصي أن الخبراء المحليين لم يغفلوا بدءاً من عصر النهضة عن دراسة ذلك الملف، وأن ماليزيا كغيرها من الأماكن لها نصيبها من تحديات ملف المياه وعقباته ومخاوفه.
وفرة الموارد
وفق الإحصائيات، فإن ماليزيا تحتل المرتبة الـ20 بين دول العالم(1) في مصادر المياه العذبة، وتمتلك قرابة 580 كم3 من المياه المتجددة، وهذا موقع غاية في التميز إذا أخذنا في الاعتبار الفارق بينها وبين كل الدول التي سبقتها في هذا التصنيف من حيث عدد السكان والمساحة؛ فالتصنيف أخذ في الاعتبار فقط كمية المياه دون النظر إلى ما سواها من العوامل ذات التأثير، فعلى سبيل المثال؛ تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية -التي تقع في المرتبة الرابعة وفق هذا التصنيف- على حصة تقدر بـ3269 كم3 فقط، وهي أقل من 6 أضعاف ما تمتلكه ماليزيا على الرغم من الفرق الهائل بينهما مساحة وسكاناً.
وتمثل الزراعة التي تعتمد على مياه الأمطار والأنهار في ماليزيا 12% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل في المهن الزراعية المختلفة بشكل مباشر قرابة 16% من السكان.
كانت سنغافورة جزءاً من اتحاد الملايو حتى الثامن من أغسطس 1965م، وفي عام 1962م وقبل انفصال سنغافورة عن ماليزيا تم الاتفاق على أن يستمر تزويد جزيرة سنغافورة بالمياه عن طريق نهر جوهور الكبير لمدة مائة عام تنتهي في عام 2062م بسعر 0.03 رينجت لكل 1000 جالون من المياه الطبيعية غير المعالجة، وهو سعر زهيد بمقاييس الزمن الحالي، وانطلاقاً من الحفاظ على ثروة البلاد الوطنية، فتح د. مهاتير محمد هذا الملف أواخر فترة حكومته الأولى (1981 – 2003م)، وطالب بالتفاوض مع حكومة سنغافورة للوصول إلى سعر عادل، وطرحت حكومته آنذاك سعر 0.53 رينجت لكل 1000 جالون من المياه، إلا أن سنغافورة لم تقبل هذا السعر، وبانتهاء حكم د. مهاتير وبعد وصول نجيب عبدالرزاق إلى الحكم غاب هذا الملف طي النسيان، ثم عاد إلى الواجهة من جديد بعودة د. مهاتير إلى سدة الحكم عام 2018م؛ حيث يمثل الخلاف مع الجارة سنغافورة حول سعر المياه النزاع المائي الوحيد ذا الشأن في ملف المياه الماليزي.
مياه الشرب
حسب الموقع الرسمي لشركة مياه الشرب الماليزية، فإن 87% من الأسر تستهلك كل منها أقل من متر مكعب من المياه يومياً، آخذين في الاعتبار حرارة الجو طوال العام، والارتفاع النسبي لمستوى الرطوبة؛ مما يدفع السكان إلى الاستخدام المتزايد للمياه على مدار اليوم.
فاتورة المياه في ماليزيا تصاعدية، ويبلغ متوسط سعر المتر المكعب عند مستويات الاستخدام العادية 0.70 رينجت (الدولار يساوي 4 رينجت تقريباً) وبالنظر إلى مستوى أسعار السلع والخدمات الأخرى، فإن هذا يجعل سعر مياه الشرب من أفضل أسعار السلع والخدمات في ماليزيا.
تصل المياه النظامية إلى ما يزيد على 95% من السكان، وتتفاوت جودة المياه المقدمة عبر أنابيب شركة مياه الشرب من ولاية إلى أخرى، وكما هي العادة فهي في المدن والحواضر أفضل منها في القرى والمناطق النائية، حسب تجربتي الشخصية؛ حيث تعد كوالالمبور العاصمة من أفضل الأماكن، تليها بينانج ثم ترينجانو، بينما يعاني بعض السكان في ولاية قدح التاريخية من شوائب في المياه، ويحتاجون -في العادة- إلى شراء مياه الشرب من ماكينات الفلترة المنتشرة في الشوارع أو المياه المعبأة.
تحديات وعقبات
أطلق معهد الموارد العالمي (WRI) -الذي طور “أطلس المخاطر المائية”- تحذيرات، منها أن عدة مناطق في 8 ولايات ماليزية يتوقع أن تكون تحت تهديد الخطر المتزايد لنقص المياه بحلول عام 2020م.
فيما أرجع “بياراباكاران”، رئيس مؤسسة أبحاث المياه والطاقة (AWER)، زيادة الطلب على المياه إلى تزايد معدلات التنمية والكثافة السكانية؛ فزيادة عدد السكان مع ثبات الموارد -أو نقصها أحياناً- يمكن أن يؤدي إلى الإخلال بالتوازن المطلوب، وأضاف: نعم لدينا كمية كافية من المياه، ولكن بعض الأنهار ملوثة، وهذا يشكل خطراً.
أما رئيس جمعية الشركات الصغيرة والمتوسطة “داتو مايكل كانغ”، فيرى أن المياه تُبدد في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وعلينا أن نبدأ فوراً باتخاذ التدابير الوقائية للمستقبل، يجب أن نعرف كيفية الاستفادة الكاملة عبر إعادة التدوير، وجمع مياه الأمطار وتخزينها.
ويعتبر البروفيسور “نجاي وينج تشان”، الأستاذ بجامعة ماليزيا للعلوم -إحدى أكبر الجامعات الماليزية وأحد الناشطين في مجال حماية البيئة- أن المياه واحدة من القضايا المركزية بماليزيا في القرن الحادي والعشرين، ويرى أن الحوكمة(2) ذات أهمية قصوى في إدارة ملف المياه، فعلى الرغم من النجاحات التي حققتها الإدارة الحالية، وأن الفقراء لا يُحرمون من وصول المياه النظيفة، فإن العديد من المجالات ما زالت تحتاج إلى تحسين.
الجغرافيا وتغيرات المناخ كابوس جاثم على صدور المعنيين بأزمة الاحتباس الحراري وتداعياتها، وليست ماليزيا عنه ببعيد، فأي تغيرات في حرارة المنطقة قد تؤدي بدورها إلى تغيرات حادة في معدلات الأمطار.
وتقف التضاريس عقبة كأداء أمام المشكلة الأكبر في ماليزيا؛ وهي تخزين المياه، وحسب آخر الإحصاءات؛ فإن ما بين 40 و55% من مياه الأمطار تُهدر دون استفادة تُذكر؛ إما بالتسرب في أعماق الأرض في ظل عدم القدرة على تخزينها، وإما بالعودة من جديد إلى البحار التي تحيط بماليزيا من جهات ثلاث.
تمتلك ماليزيا فرصاً واعدة، وإمكانيات ضخمة، وموارد وفيرة، وعقولاً نابغة، وهي قادرة على التغلب على مشكلات الحاضر، وإعداد العدة لتحديات المستقبل، وتحتاج إلى خطة وطنية شاملة متوسطة وبعيدة المدى لإدارة ملف المياه لتحقيق الاستفادة القصوى، ولعل تجربة سنغافورة التي تستعد للاكتفاء الذاتي بعد انتهاء اتفاقيتها مع ماليزيا عام 2062م رغم ندرة الموارد والكثافة السكانية العالية وضيق المساحة تجربة جديرة بالتأسي.
_____________
الهامشان
(1) حسب كتاب «The world fact book” الكتاب الدوري الذي تصدره وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن الحقائق التي توصلت إليها عن دول العالم.
(2) الحوكمة في أبسط تعريفاتها: هي مجموعة القواعد التي تحكم إدارة المنظمات، وتقوم بالرقابة الفاعلة عليها، وتنظم العلاقة بين جميع الأطراف لحماية المصالح وتعظيم الأرباح.
(*) باحث مصري مقيم في ماليزيا