لقد خلق الله الإنسان وأمره بعبادته، فقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56}) (الذاريات)، وكذلك أمرهم بمهمة أخرى هي إعمار الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ) (هود: 61)، وجعل أسباباً للقيام بهذه المهمة، ومن أهم هذه الأسباب العلم والعمل.
فبالعلم تدرك أسرار هذا الكون ونواميسه، وطـرق الاسـتفادة مما سخره الله للبشر، وبالعمل والجد والمثابرة يعمـر الإنـسان هـذا الوجود ويستفيد منه.
واقتضت حكمة الله جل شأنه أن يجعل وسيطاً يقوّم به الجهد والمردود، وبه تتبادل السلع والمنافع، وهو ما يعبر عنه في دنيا الناس بالمال، فالمال قوام الحياة، وهـو المحرك للجهـود البشرية نحـو الجـد والعطاء والتسابق في ميادين الحياة المتشعبة.
ومن هنا اهتمت الشرائع بتنظيم كسب المال، ووضعت له أطراً عامة في كسبه وإنفاقه وإمساكه، وجعلت فيه حقوقاً عامة، وحقوقاً خاصة، ليؤدي المال وظيفته التي أرادها الحق سبحانه وتعالى، ولئلا يكون وسيلة أثـرة ونزاع، بـل وسيلة قوام للحيـاة، وتكافـل في المجتمعات.
وقد حث القرآن الكريم والأحاديث النبوية في مواطن كثيرة على الإنفاق الطوعي والبذل والعطاء، ولكن بعض النفوس قد يدفعها حب المال إلى الإمساك والشح، فيحجب المال عن وظيفته ويجعله هدفاً لا وسيلة؛ لذا جعل الله فيه حقاً وواجباً محدداً في جميع أنواع المال من نقود وعروض تجارة أو محاصيل زراعية أو ثروة حيوانية بمقادير وشروط تعرف تفاصيلها كتب الأحكام.
ولأهمية هذا الحق جعله الإسلام أحد أركانه الخمسة وسماه الزكاة، لأنها سبب في تزكية النفوس وتطهيرها، فهـي تزكيـة لنفوس الأغنياء من الشح، وتنقية لنفوس الفقراء من الحقد والحسد وطهارة ونماء للمال.
ووضع مصارف لهذا الحق الذي لا يتجاوز 2.5% من المال، وهو بمعنى آخر يعبر عن الحد الأدنى لدفع الأموال لصالح المجتمع وفق المصارف الشرعية وليس الحد الأعلى في تقديم المساعدة، وهذه المصارف محددة كما ذكرت لكم في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {60}) (التوبة).
لن أخوض في تفاصيل مصارف الزكاة وما يترتب عليها من أحكام شرعية، إلا أن حديثي سيوجه الانتباه إلى أن الشريعة السمحاء حثت على صدقة التطوع من غير الزكاة فيما بقي من المال الذي تصل نسبته 97.5%، وليس لها من الضوابط الشرعية سوى تحقيق المنفعة والنية الصادقة، ولَم يحدد الفقه الإسلامي مصارف خاصة لها كما تكلم عن الزكاة، بل ترك تقديرها للناس، إلا أن هناك توجيهات نبوية عامة هي أقرب للتحسينات والتفضيلات الزمانية والقواعد العامة.
فما حدود هذه المنفعة؟ وهل للظرف الزماني والمكاني أثر؟ وما التوجيهات النبوية في مصرف الصدقات؟ لعل الله يعينني على أن أكتب مقالاً آخر أجمع فيه القواعد العامة لمصرف الصدقات.