صباح هذا اليوم وجدت في طريقي ثيابا ملقاة، من عادتي أن أتفحص كل الأشياء، غرست أمي هذه العادة داخلي، تسر إلي بحكاية كل ليلة، أحيانا كنت أعثر على قطع من صفيح أو ورقة مالية، ربما وجدت تقريرا سريا؛ فرجال السلطة ثملون بما فيه الكفاية، أو لعل فتاة عاشقة تترك لي رسالة- وهذا بعيد جدا؛ أنا عاطل أتقمم أشياء الناس، لست ممن يتنعلون حذاء فارها، كل ما أمتلكه لا يسد جوعة يوم- هذه الثياب رثة بعض الشيء؛ قديمة، يبدو أن الأرض تنشق عن غرائب كل آونة: تمثال ذهبي، قطع من عملة نادرة، حبات من عقد أنثى، أما ثياب فكان أمرا غير معتاد، ترى هل يعابثني جني؟
تخوفني أمي من مكره، يخايل بصوته؛ يتسلل إلى قلوب العذارى.
يبدو أنه ينصب شركا حولي، ربما أعجبته، معاذ الله أن يحدث هذا، لا تزال بي رجولة وإن كانت مصابة ببعض ضمور.
ثم إن هذا أمر مستحيل، فأنا لست وسيما، كما أنه لا نفع من ورائي. فحصت ما وجدت جيدا، ظهر لي أنها صورة من ورقة مطوية لرجل عاش هنا منذ ما يزيد عن مائة عام، عرفت هذا من التاريخ المدون خلفها، ثمة عبارة: في عهد حضرة صاحب الجلالة، ترى أي خديوي؟
لم أنشغل كثيرا بهذا، كذلك يفعل الناس احتفاء بالسادة الذين ينتظرون برهم، أو هو عرف مايزال يتبعونه؛ أشد الأمور غرابة أنني وجدت ورقة أخرى ممهورة بخاتمه: يسمح له بركوب قطار الدلتا!
ورقة ثالثة لا يجوز لأحد أن أن يمنعه من أن يعبر ضفة النهر.
وإمعانا في الغرابة؛ ارتديت تلك الثياب، صرت رجلا آخر، احتفى بي المارون، بالغوا في احترامي؛ جاءوا إلي بحصان أبيض أركبوني فوقه، تجمع العشرات حولي، صاروا يتنادون: لقد عاد عرابي من جديد، أتحسس وجهي فإذا شارب كبير قد نبت، رأسي يعلوها طربوش سلطاني أحمر، أحقا عاد عرابي؟
تزايد القوم من حولي، صافرة دوت في المحروسة؛ اصطف رجال الحرس على جانبي الطريق، يتبختر بي الجواد؛ عن يميني البارودي؛ عن يساري الأميرالاي محمد عبيد، لكن شبح خنفس يتبعني؛ أراه في ذلك الغراب الأسود الذي يطير ومن ثم يقف عند شجرة السرو العملاقة قرب بحيرة الأزبكية؛ أتغافل عنه؛ فشهوة الثوب السلطاني، المقعد الوثير في قصر عابدين تتملكني، تهزأ بي عجوز؛ تنظر إلى جوربي المقطع، فتاة صفراء ذات شعر يسابق الريح في عناد تشير إلي، تضرب بغمازة عينيها.
من كل الأماكن والحارت ينسلون، عراة حفاة، أجسادهم واهنة، أتعبهم الجوع، أرهقهم السوط، يهتفون بالمخلص القادم إليهم، الخزائن المكدسة بالذهب، الحرملك وليالي شهرزاد، المحروسة وهي تتمايل بالإمبراطورة أوجيني وأنا أراقصها، لأجلها كانت أوبرا عايدة، أتفل على هؤلاء الرعاع، يبتسمون في بلاهة، أحدهم: مولانا يعطر الركب!
تخايلني شهوة وراء أخرى، تتطاول أحلامي، سأكف عن مناكفة الباب العالي؛ لا بل سأكون وريثه، سأجعل من التل الكبير حدائق ورياحين؛ لا لا إنهم لا يستحقون!
تصيح فيهم العجوز: ليس هو.
يأتي رجل معمم؛ يهوذا بعث من جديد!
مشاهد مركبة من أجزاء متقاربة، سوق المغربلين؛ في درب سعادة حتى العتبة الخضراء أقاويل ووشايات، كل آونة يأتي فارس يرسم في المحروسة لوحة جميلة، أطفال ومدارس، حدائق ومصانع، جنود لجيش يفتح القدس، يعبر القناة؛ يطارد التتار في عين جالوت، يتبع منابع النيل، يرسل كسوة الكعبة، يبني مدنا جديدة، يكبر الحلم، تزغرد نسوة في المدينة.
لكن ظلا أسود لشبح يطاردني، ترتسم مقصلة يمسك بها سياف يخرج من عينيه شرر، ترتعد أوصالي.
أهم أن أفر بالجواد، يتشبث بالأرض، يخذلني، تتسمر قوائمه الأربعة، يطرحني أرضا، يركلني الذين كانوا يهتفون بي، يصعدون فوق جسدي، تتبعثر أشيائي، يقف الغراب الأسود فوق رأسي!