قبل الحديث عن حقوق المرأة في الإسلام وعن الشبهات الكثيرة التي تثار حول هذا الموضوع، لا بد من الانطلاق من حقيقة ثابتة وهي أن الإسلام بأحكامه وتشريعاته وعقيدته ليس فرضيات فلسفية؛ أو تشريعات بشرية تهوي قيمتها بتغير الظروف والوقائع.
فشرع الله وحي رباني متعال عن مجريات الزمان والمكان، فهو شرع سمته العدل والعدالة والإنصاف، فاحت بعدالته الآيات القرآنية، قال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38)، والرسالة المحمدية جاءت بالرحمة كلها، وبالعدل كله، تحمي مصالح الإنسان، سواء كان رجلاً أم امرأة، طفلاً أم شيخاً، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)، فالشريعة الإسلامية وضعت الإصر والأغلال التي كانت مفروضة على بني الإنسان في السابق، ومن ذلكم الحقوق التي أكرم بها الإسلام المرأة.
وقد جسد الرسول صلى الله عليه وسلم تجسيداً عملياً رائعاً صور حماية حقوق المرأة والدفاع عنها، فكان بالفعل خلقه القرآن، وهذه سيرته وسنته وأحاديثه شاهدة على ذلك.
لكن ينبغي – وفي ثنايا الحديث عمَّا أصاب المرأة من غُبن وإجحاف – أن نفصل بين عهد النبع الصافي وبين ما تلا العهد النبوي وبعده الخلافة الراشدة، من تغييرات تاريخية وانكسارات أدت إلى انحطاط الإسلام، وظهور الاستبداد بانتقاض عرى الإسلام عروة عروة؛ وأولها عروة الحكم، حيث صار يحكم بالسيف المسلط على رقاب الناس، فنالت المرأة حظاً وافراً من المهانة والاستضعاف تعيشه مضاعفا، كونها الشق الأضعف في جسد الأمة.
أما تحت مظلة الإسلام فقد نالت المرأة كافة حقوقها غير منقوصة، أولها حق الحياة التي كانت تحرم منه فتوأد وهي صغيرة، وحق التعليم وحق التعبير عن الرأي الحر؛ والمشاركة في الحياة العامة؛ وحق المساواة؛ والحق السياسي؛ وحق التملك والتصرف.
لكن وبعد ضعف المسلمين وخضوعهم للاحتلال والاستعمار الغاشم، رصد الكثير من المهانة والإقصاء
المضروب على المرأة، وبدأت أقلام المستشرقين تسيل غيظا ووصفا لما رأت، وتشفياً من دين هدد وجودها المسيحي في الأندلس، وغيرها من البلدان.
ولقد عمل المستشرقون وأدعياؤهم؛ والعلمانيون ومن لفّ لفهم على إثارة العديد من الشبهات حول قضايا المرأة عموماً؛ وحقوقها في الإسلام خصوصاً؛ الغرض منها كيل التهم للإسلام؛ وكونه ظلم المرأة في العديد من حقوقها. تلك الدعاوي وجدت وتجد لها من بني جلدتنا من يتلقفها ويروجها إما جهلا بالدين الإسلامي وأحكامه؛ وإما تقليداً للأجنبي وحنقاً على الشريعة وأحكامها.
وفي هذه المقالة نورد بعض الحقوق التي كفلها الإسلام للمرأة؛ إسهاماً في نشر الوعي وسط الأجيال المسلمة؛ وتحصيناً لهم من سهام التغريب والعلمنة الهدّامة. مع الرد على ما يثار من الشبهات.
حق المرأة في الحياة:
أهم حق من الحقوق الإنسانية لكل إنسان؛ هو الحق في الحياة؛ أجمعت على ذلك التشريعات السماوية والقوانين الأرضية. ومن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية مقصد حفظ النفس. والمرأة قبيل مجيء الإسلام كانت مهضومة الحقوق؛ وفي مقدمة ذلك الحق في الحياة، فاستنكر الإسلام الاعتداء عليه أيما استنكار؛ وشنع على أهل الجاهلية اعتداءهم ووأدهم للمرأة، فقال سبحانه: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ {9}) (التكوير)، حيث كان بعض أهل الجاهلية يئد البنات؛ فيقتلهن وهن صغيرات! وهو فعل قبيح واعتداء على حق الأنثى في الحياة. بل إن القرآن الكريم منع ذلك وعاب على فاعليه سلوكهم تجاه المرأة في أسلوب تربوي يستهجن
نفسية العربي الجاهلي حينما يبشره الله الخالق بالأنثى يقبحه ويذمه حيث قال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) (النحل)، فكان الحكم بالنهي والتحريم. فأهم حق أقره الإسلام للمرأة هو حقها في الحياة، فنهى عن الوأد ومنعه، كما منع قتل النفس جملة وعدّها من أكبر الكبائر وأعظم الموبقات؛ حفظاً للنفس البشرية وصيانة لها والجميع يعلم أن حفظ النفس أحد الكليات الخمس للشريعة الإسلامية؛ بل في مقدمتها والكل خادم لها.
الحق في الحياة الكريمة:
الإسلام دين الحرية والكرامة الإنسانية؛ ولا ينكر هذا إلا مغرض جاحد متهجم على الدين الإسلامي وتشريعاته. فكان من الطبيعي أن يحث الإسلام على الحياة الحرة والكريمة للناس، ويشرع تشريعات وأحكام مختلفة لحمايتها، ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته وتوجيهاته النبوية المباركة. غير أنه تقفز إلى الواجهة شبهة بخصوص حرية المرأة وكرامتها وعزتها؛ يثيرها الآخر معلنا أن الإسلام ظلم المرأة بتشريعه لفقه الإماء!
ويتجاهل هؤلاء أن العبودية والرق كانا قبل الإسلام، والدين الخاتم جاء لتحرير الإنسان من العبودية وشرع تشريعات تدعو المسلمين إلى عتق الرقاب؛ والتقرب بذلك إلى الله سبحانه والنصوص في هذا متضافرة شائعة. ومن منا لا يذكر قول الفاروق عمر رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” (أبو العرب محمد بن تميم المغربي، كتاب المحن، ص 317).
حق التعلم والتعليم:
نطل من نافذة العلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها تلك العالمة المفتية، أكثر ممن روى وجمع الأحاديث وحفظها، خاصة منها ما يخص فقه النساء، نموذج سامق في العلم وتلقيه وكان يزورها كبار الصحابة رضوان الله عليهم ليسمعوا منها حديثا أو أكثر.
ثم إن قول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1}) (العلق)، لم يكن خطاباً خاصاً بالنبي، وإنما هو لسائر أمته رجالاً ونساءً .
وما من دليل أكبر من أن يكون أول الوحي هو نداء “اقرأ” على أننا أمة العلم. وفي تاريخ المسلمين الطويل صفحات ناصعة لتعلم المرأة وتعليمها؛ بل وتصدّرها مجالس التدريس والإقراء والتعليم والتربية. وهذا الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب الفتح؛ من شيوخه المرأة العالمة المحدثة الحافظة كريمة المروزية.
حق التعبير وإبداء الرأي:
نمر على عمر رضي الله عنه وقد اعتلى المنبر يخطب في الناس ويأمرهم بتحديد الصداق في أربعمائة درهم ، وينزل ، فتعترضه امرأة ، وتقول له: “أما سمعت الله يقول : {وان آتيتم إحداهن قنطاراً} ثم يرجع إلى منبره ويتراجع عن قراره وهو قرار سياسي بما هو أمير المؤمنين، وقرار فقهي شرعي بما هو ناظر في النصوص الشرعية؛ وراع للمصالح الشرعية للمسلمين، اعترافاً للمرأة برجاحة رأيها ولم يمنعه منصبه أن يسمع لامرأة تعارضه الرأي بل وأذعن لها أمام الملأ وأقر برأيها علناً.
كما لم يمنعها كونها امرأة أن تراجع الحاكم وهو من هو في شدته وصلابته وتعترض رأيه: شجاعة نساء تربين في حضن النبوة على القوة و الشجاعة والحرية.
حق المساواة:
الإحساس بالنقص والدونية لا يقبل به أي حر. تسرب هذا الشعور إلى النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما شعرن بنفوذ الرجال عليهن في الأجر والثواب لحالهم من مثل الجهاد فتناقشن الأمر وأرسلن مبعوثة باسمهن تحتج وتستفسر عن هذا الحق؛ أملا أن يكنّ كالرجال في الأجر والثواب وهنّ النساء الضعيفات فكانت المبعوثة أفصحهن نساء: أسماء بنت يزيد الأنصارية، وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بشجاعتها وحسن قولها، وبعمق سؤالها، فأجابها جواباً شافياً يشفي غليل السؤال، فخرجت تهلّل وتكبّر فرحاً من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث إشارات عظيمة نلتقطها: أهمها التواصل والحوار بين الرجال والنساء في مجالس العلم، ثم دينامية النساء واجتماعهن ونقاشهن في قضاياهن الدينية والدنيوية وتلك كانت التربية النبوية. ومن طالع كتب الحديث ودواوينه يقف على مدى مشاركة المرأة في الحياة العامة عبر مرافقها المختلفة: في التربية والتعليم؛ في البناء والتشييد؛ بل في الجهاد والغزوات؛ وفي الاستشارة واتخاذ القرارات المصيرية. وما رأي أم المؤمنين أم سلمة في صلح الحديبية عنّا ببعيد.
الحق السياسي:
المشاركة السياسية هي جزء من جهاد الكلمة وجهاد التعبير وجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا
أمر مشترك بين الرجل والمرأة يقول الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة: 71).
ومما لا شك فيه أن هذا الأمر محاط بسياج الخصوصية ليس إهانة وإنما ترشيداً لعمل المرأة الأساسي. ومن أحكم تخصصه أتقن عمله، والأولوية في الوظيفة، فجبهة المرأة الأساسية هو الأسرة منه تغزو ومنه تجاهد ومنه تشارك وتنفتح على الشأن العام وتدعو بنات جنسها إلى التكتل لصنع التغيير وتجاوز الصعوبات.
وقد كانت عائشة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر تنتقد أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وهي من قادت الثورة على الإمام علي حين اجتهدت وأخطأت ثم ندمت وتابت رضي الله عنها. ونحيل القارئ الكريم على كتاب عبد الحليم أبي شقة: “تحرير المرأة في عصر الرسالة” فقد قارب الشقة رحمه الله.
الحق في التملك وحق التصرف:
من الشُّبه المتجددة في كل وقت وحين: اتهامات الغرب للإسلام في قضية إرث المرأة، ويتهمون الإسلام بمنع المرأة من حقها في الثروة والمال، ويطالبون بنصف ما يرثه الرجل، فهذا أمر يراه السطحي الذي لا يفقه في الشرع وأحكامه في شموليته ونسقيته. إن ميراث المرأة هو نصيب لا تنفقه، يبقى محتفظاً به، وإنما النفقة على الرجل سواء كان زوجاً أم أباً، وهذا هو معنى الدرجة التي مُنحت للرجل على المرأة درجة التكليف والاعتناء والرعاية. تكليف ثقيل وإكرام للمرأة. ونسي هؤلاء المرجفون أن هذه حالة واحدة من حالات إرث المرأة، وجهلوا أو تجاهلوا الحالات الأخرى التي ترث فيها المرأة كالرجل أو تفوقه في النصيب والقسمة. وقد ناقش علماء الإسلام ومفكروه هذه الشبة بتفصيل وردوا مزاعم المستشرقين والعلمانيين. (انظر كتاب د. محمد عمارة: حقائق وشبهات حول مكانة المرأة في الإسلام، ص: 177، طبعة دار السلام 2010م).
الحق في المعاشرة الزوجية والتمتع:
هذا الحق للمرأة بتوجيه نبوي ، حيث شكت أم الدرداء لسلمان الفارسي حين جاء يزور أبو الدرداء ورآها في ثياب رثة مبتذلة، فلما سألها عن حالها: أجابته: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. كونه يكثر الصوم والعبادة، فأهمل إسعاد زوجته، فقوّمه سلمان؛ وذكّره بالتوجيه النبوي بإعطاء كل ذي حق حقه. والقصة رواها البخاري والترمذي.
خاتمة:
لقيت المرأة عبر التاريخ وفي مختلف العصور أنواعاً شتى من المعاملة، تراوحت بين قيادة الأمم والشعوب، وبين الاضطهاد والظلم والكبت، وإن كان الغالب هو استغلال المرأة وسلب حقوقها.
وقد كان الإسلام سبّاقاً في إعطاء المرأة حقوقها، ورفع مكانتها، وإعلاء شأنها، ومع ذلك فلم يسلم من الافتراءات، وتشويه الحقائق والطعن المباشر وغير المباشر، إلا أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وقد شهد بفضله المنصفون من كل الملل.
إن الشبهات حول حقوق المرأة في الإسلام متنوعة ومتجددة عبر الزمان والمكان، تخفت حيناً وتطفو إلى السطح أحياناً أخرى، وإنما هي تجليات الانفلات عن الشرع الحنيف وعن تطبيق روحه وأحكامه. نعم فقد أهدر الرجل حقوق المرأة، لكن هذا لا يتغير بتغير ثوابت الأمة، وإنما بإعادة قراءة النص القرآني والسيرة النبوية بنظرة تجديدية ونشر الوعي عند المرأة أولاً؛ بأن تنهض لتغيير ما أصابها من حيف، لكن ليس بالعنف أو القطع مع الشرع الحنيف والارتماء في حضن الغرب بإلحاده وفساده، أو بإعلان الحرب على الرجل، وإنما بالاعتكاف على سلوك مسالك العلم والبحث ودعوة المرأة للمرأة إلى الالتفاف حول مشروع تغييري أصيل.
__________________________________
(*) رئيس أكاديمية علاء الدين الدولية – المملكة المغربية.