أثار الشيخ محمد الغزالي – يرحمه الله- جدلاً واسعاً بكتاباته الجريئة، التي لم تعرف المواربة ولا المحاباة، فالرجل – يرحمه الله- كان صادقاً مع نفسه، فيكتب كل ما يؤمن به، وكل ما يسكن قلبه، أجراه على لسانه، دون حسابات لردود الأفعال.
ولقد كانت فيه حدة اعترف هو بها، وكان لهذه الحدة آثار سلبية، جعلت بعض غير المنصفين له لا يحاولون فهم كلامه، وأن يخرجوه من السياقات الحادة التي كان يتكلم بها أحيانا، فطعن فيه بأنه منكر للسنة، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه كما صرح، وكما يظهر من كتاباته، وإن أخطأ في الحكم على بعض الأحاديث، ولم يتبع في الحكم على الأحاديث المنهج العلمي الذي عرف عن السلف الصالح رضوان الله عليهم.
لكن الإشكالية الكبرى هو اتهام الشيخ في عقيدته، ليس فقط بزعمهم أنه أشعري العقيدة، بل كاد بعض السفهاء أن يخرجه عن الملة، ويعتبرونه شرا من اليهود والنصارى، وأنه ممن يخرب دين الله وإن ادعى أنه داعية!! هكذا زعموا.
لقد اتصف الشيخ الغزالي بأنه صاحب العقيدة الراسخة، وقد ألف في مجال العقيدة كتابا من أروع ما كتب فيها، هو كتابه “عقيدة المسلم” الذي يتميز بمنهجه الجديد في طرح مسائل العقيدة، وربطها بتحريك الإيمان، ومحاولة تقويته، لا أن تقف دراسة العقيدة عن البحث والتأمل على منهج المنطقيين وعلماء الكلام.
وقد فهم البعض أن الشيخ أشعري المذهب، ولكنه سلفي المذهب عند التحقيق، غير أنه يعتذر للأشاعرة فيما ذهبوا إليه ، من محاولة البعد عن التشبيه والتجسيد في الصفات، وإن كان يؤيد مذهب السلف، ويراه أولى.
وقد صرح بهذا في أكثر من موطن، فهو يقول:
” فإذا استحق الأشعري لوما، لأنه أول آيات ومرويات ابتغاء تنزيه الله تبارك وتعالى، فغيره كذلك ملوم، ولا معنى لنهش الرجل وحده بالأسلوب المسعور الذي نراه الآن؟
هل يعني ذلك أننا مع الأشعري في منهجه؟ الحق أني مع السلف الأول من صحابة رسول الله ، ومع دولة الخلافة الراشدة، التي لم تفتح بابا لهذه البحوث.
وأنظر إلى ابن تيمية والأشعري على أنهما سواء في الإيمان الصحيح، والغيرة على الإسلام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ماذا يكسبه السلفيون من شتم الأشعري والرازي والغزالي والقرطبي وبقية علماء المسلمين؟؟ طول عشرة قرون! أليس الأولى بهم أن يدركوا شؤم الخلاف ويجنبوا الأمة بلاءه الآن؟
كنا في الجامع الأزهر ونحن طلاب صغار نعرض رأيي السلف والخلف، وندرس مواقف الجانبين، دون حساسيات، وقد ألفت كتابي “عقيدة المسلم” مؤثرا مذهب السلف لاقتناعي بعجز العقل البشري عن اكتناه الغيبيات.( سر تأخر العرب والمسلمين، ص: 90-91، طبع دار الريان للتراث)
وقد عبر الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- عن عقيدته، وموقفه خاصة من آيات الصفات، فقد جعل التفكير في ذات الله من الطيش العقلي الذي لا يصح، وأن الله سبحانه منزه عن كل تصور عقلي، فقال:
“إن القرآن الكريم حسم طيش الخيال عندما قال في التنزيه والتجريد: (ليس كمِثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ) (الشورى :11)، ونحن من بعيد قد نَشِيمُ لَمَعانَ البرق، وقد يمر بعقلنا طيف عن أمجاد الألوهية لا ندري مأتاه، ومع ذلك فإن هذه الخطوات العابرة لا تغني شيئًا، بل كما قال أبو الفتح البستي :
كلَّ من يرتقي بوهــــم من جلال وقدرة وسناء
فالذي أبدع البرية أعلى منه سبحانه مبدع الأشـياء.
بل يتهم الذين يبحثون في ذات الله بأنهم مرضى، يجب علاجهم، فقال:
” إنني أعُدُّ الباحثين في ذات الله مرضى! فنحن على تفاهتنا لا نعرف من نحن فكيف نعرف الذات العليا؟
والأفهام البشرية في ذات الله تفاوتت تفاوتًا بعيدًا بين التجسيد والتجريد، فكُتّاب “العهد القديم” صوَّروا الله يبكي ويندم ويمشي ويقعد ويأكل ويشرب ويضرب إلى جانب ما له من صفات رفيعة.
من أغرب الصور أنه جلس مستلقيًا على قفاه متمددًا على الأرض واضعًا قدمًا فوق أخرى!
وفلاسفة اليونان المؤلِّهون ـ في مقدِّمتهم أرسطو ـ صوَّروا الله منزَّهًا عن كل شيء، حتى عن الصفات التي يَعلَم بها ويَقدِر بها، فهو عالم بذاته قادر بذاته. وبالغوا في التجريد حتى كأن الله معنًى لا ذات!
ويعتبر الشيخ الغزالي أن المصدر الوحيد الذي يمكن أن نعرف به الله هو القرآن الكريم لأنه كلامه، فهو سبحانه تحدث عن ذاته في كتابه:” فإذا تجاوزنا الأفهام البشرية إلى الوحي الأعلى، واستمعنا إلى القرآن الكريم وجدنا أوصافًا تقرِّب معنى الألوهية إلى الحس الإنساني من غير تجسيد، وتبلغ بها كمالًا لا يتناهى من غير تجريد” .
وبين
وقد نبَّه القرآن منذ أُنزِل إلى أن هناك آياتٍ ينبغي التسليم بها، لأن حقيقتها فوق الفكر العادي، ومن الزيغ إكثارُ اللَّجاجة حولها. لكن العناد والفراغ خلَقا طوائفَ لا شغل لها إلا هذا اللغو، فكانت بلاء على الأمة ولا تزال!
إن اللغات على كثرتها من وضع البشر، وقد ألَّفوها ليعبروا بها عما يريدون من معانٍ وما يستخدمون من أدوات، وشئون الألوهية فوق اللغات وفوق واضعيها، فإذا أفهمنا الله بلغاتنا شيئًا يتصل بذاته العليا فعلى أسلوب التنزيل والتقريب.
وإذا كان عبد الله بن عباس يقول: إنه ليس في الدنيا من أوصاف الجنة إلا الأسماء. يعني أن الحقائق لم ترها عين ولم تسمعها أذن، فكيف بالحديث عن رب العالم وخالق الجنة والنار!
إن الرغبة في فهم حقيقة العرش وحملته، أو كيف يجيء الله في ظُلَل من الغمام، وكيف يجيء والملائكة صفًّا صفًّا ـ هذا كله نَهَمٌ مردود، ومجازفةٌ الذاهبُ فيها مفقود، ومن الخير أن يعرف العقل أين يُنتِج فيتحرك، وإلا سكن!
وقد كنا ونحن طلاب ندرس مذهبَي السلف والخلف بهدوء، وبغتةً لاحظت في أيامنا تحاقدًا بين ناس يتبعون السلف وناس يتبعون الخلف، والأمة الإسلامية تكاد تسقط من الإعياء ومن ضربات الأعداء، فعجبت لانفجار الخصومة في هذا الوقت العصيب!
وقد رأيت أن أُثبت كلامًا للدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز في الموضوع لعله يخفف من هذا البلاء قال:
إن كلمة “اليد” في قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)( الفتح: 10) أو كلمة “اليمين” في قوله: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)( الزمر: 67) فسرها العلماء المتأخرون بأنها تعني القدرة، وهو استعمال مجازي مشهور، يقال: لا يد لي بكذا. أي لا قدرة لي عليه.
أما السلف الصالح فقد اشتُهر عنهم أنهم لا يُؤولون هذه الظواهر بل يأخذونها على الحقيقة. والواقع أنهم لا يمنعون أصل التأويل، ولكنهم يسلكون في تأويلها مسلكًا علميًّا متينًا يدل على عُلُوِّ كعبهم في الفهم، وأنا أحب أن أفسره لكم لأنه ينفعكم في مواضع كثيرة.
إلى أن قال :
وجملة القول أن طريق السلف هو الأليق بالعلماء، وطريق الخلف أصلح للعوامِّ وأنصاف العوامِّ.
وأرى أن كلام الشيخ الجليل فيه خير كثير، إنني في دروسي وعظاتي أتَّبِع مذهب السلف، وعندما أجادل أهل الكتاب والماديين أنتفع بمباحث الخلف!
وفي كل الأحوال أرفض تجريد الفلاسفة، وتجسيم اليهود والنصارى، ومَن تأثر بهؤلاء وأولئك من ضِعاف التفكير.( انظر: مائة سؤال عن الإسلام، ص: 184-187، طبع دار ثابت – القاهرة ، سنة 1417هـ)