إن العقل البشري منذ القدم كان مشغولاً بمعرفة القضايا الكبرى، ويحاول أن يجد الإجابة عنها، وكانت هذه الأسئلة الفلسفية الكبرى متمثلة في: الله والكون والإنسان، وكان يحاول معرفة حقيقتها، والتعرف على صفاتها، وكيفية التعامل معها، والبحث في العلاقة بينهم.
وقد حدث انحراف منذ القدم في تصور الذات الإلهية، وذهبت العقول فيها مذاهب شتى، فمنها من شبَّه الباري -سبحانه- بخلقه، وجعله أشبه ما يكون بالإنسان، والبعض حُبست حواسه في عالم الشهادة فأنكر وجود الإله، وقام بإضفاء صفات الألوهية على هذا الكون المشاهد، أو المخلوقات العاقل منها وغير العاقل.
وجاء الأنبياء لتصحيح هذا التصور، ووضع الأمور في نصابها، وأكدوا على أن الله -سبحانه- لا يعلم كنه ذاته إلا إياه، ولا كنه صفاته إلاه، تقدّس وتعالى وتنزه عن أوهام المتوهمين، وظنون الظانين، فسبحان من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر.
وقد جاء نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ليدلّ الخلق على مولاه، فأثبت له ما أثبته -سبحانه- لنفسه، ونفى عنه ما نفاه -تبارك وتعالى- عن نفسه، فلم يقحم نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- نفسه فيما لا طاقة له به، وهو الذي علّم أمته أن تتفكر في مخلوقات الله للوصول إليه -تبارك وتعالى، فتعبد هذا الخالق الرازق المدبر الحكيم، الذي وهبهم الحياة، وتولاهم بعنايته، فأجرى عليهم الأرزاق، وما تركهم ولا أهملهم.
ونهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن التفكير في ذات الله، فهل يمكن للصّنعة أن تعلم كنه صانعها؟
فقال -عليه السلام: “تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في ذات الله”([1]).
وقد قال أستاذنا الدكتور الجليند: “إن من يفكر في ذات الله كالناظر إلى قرص الشمس، فإنه لا يزداد بكثرة النظر إليه إلا عمى”.
وصدق القائل:
العَجزُ عَن دَركِ الإِدراكِ إدراكُ وَالبُحثُ عَن سِرِّ ذاتِ السِرِّ إِشراكُ
وأطلق الإسلام العنان للعقل في البحث فيما دون العرش؛ فيبحث الإنسان في نفسه وفي الكون ليصل إلى الخالق -سبحانه، ويستدل بالصنعة على الصانع، ويتعرف على صفات الخالق من خلال تجلياتها على الكون والإنسان.
ولكن العقل المسلم افتتن بالتفتيش عن عالم الغيب، والدخول فيما لم يؤذن له بالدخول فيه، ولم يكتف بما جاء به خبر الصادق، فراح يبحث في الذات الإلهية وصفاتها وأفعالها، والحديث عن الصفات والأفعال فرع عن الكلام في الذات؛ فإذا كنا لا نعلم كنه الذات وأنها ليس كمثلها شيء، فكذلك الصفات والأفعال الإلهية؛ فهي ليس كمثلها شيء.
وتخلف الأمة يرتبط بإعمال عقلها فيما لا يراد لها إعماله فيه، وإغفالها عما يراد إعماله فيه.
وقد وقعت عقولٌ من عقول كبار أذكياء العالم في مزالق عجيبة عند بحثها في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وقعت فيما سُمي بمحالات العقول، يقول ابن تيمية: “يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه، وما يعلم العقل استحالته، بين ما لا يعلم العقل ثبوته، وبين ما يعلم العقل انتفاءه، بين محارات العقول ومحالات العقول؛ فإن الرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- قد يخبرون بمحارات العقول، وهو ما تعجز العقول عن معرفته، ولا يخبرون بمحالات العقول، وهو ما يعلم العقل استحالته”([2]).
وقد اشتهرت قبل ابن تيمية محالات ثلاث عقلية وقع فيها كبار المتكلمين؛ فـ”قالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري”([3]).
1- طفرة النَّظّام
وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظّام من كبار نظّار المعتزلة، وقوله بالطفرة “هي دعواه أن الجسم قد يكون في مكان، ثم يصير منه إلى المكان الثالث أو العاشر منه من غير مرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر، ومن غير أن يصير معدومًا في الأول ومعادًا في العاشر”([4]).
2- أحوال أبي هاشم
وأبو هاشم الجبّائي من كبار نظّار المعتزلة إلا أنه فرارًا من إثبات الصفات التي يخاف من إثباتها تعدد القدماء قال بالأحوال، والتي وصفها بأنها ليست موجودة، وليست معدومة، “ولا قديمة ولا محدثة، ولا معلومة ولا مجهولة”([5]).
وعندما سئل: “هل أحوال الباري غيره أم هي هو؟
فأجاب بأنها لا هي هو ولا غيره.
فقالوا له: فلم أنكرت على الصفاتية قولهم في صفات الله -عز وجل- في الأزل: إنها لا هي هو ولا غيره”([6]).
3- كسب الأشعري
والأشعري إمام أهل السنة والجماعة، وهو “يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارًا ويقول: إن الفعل كسب للعبد، لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور”([7]).
واعتبروا هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول؛ لأن “العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب”([8]).
وقد حاول التاج السبكي أن يبرر ما ذهب إليه الإمام الأشعري فقال: “والذي تحرر لنا أن الاختيار والكسب عبارتان عن مُعيّن واحد، ولكنّ الأشعري آثر لفظ (الكسب) على لفظ (الاختيار)؛ لكونه منطوق القرآن، والقوم آثروا لفظ (الاختيار) لما فيه من إشعار قدرة للعبد.
وللقاضي أبي بكر مذهب يزيد على مذهب الأشعري فلعله رأي القوم.
ولإمام الحرمين والغزالي مذهب يزيد على المذهبين جميعًا، ويدنو كلّ الدّنّو من الاعتزال، وليس هو هو”([9]).
4- القدم النوعي عند ابن تيمية
قبل ابن تيمية كان الحجاج عن مذهب أهل الحديث والأثر في العقيدة متوقفًا على إيراد الآيات والأحاديث والآثار التي يرى أرباب المذهب أنها تدل على مذهبهم الاعتقادي، لكن بمجيء ابن تيمية أصبح الحجاج لمذهب أهل الحديث والأثر على طريقة أهل الكلام والفلسفة، وكل من جاء بعد ابن تيمية كانوا عالة على كلامه وطريقته في الحجاج والمجادلة.
وقد وقع ابن تيمية -رغم تتبعه للمخالفين لمذهبه وانتقادهم له- فيما وقع فيه أرباب النظر من الإتيان بالمحالات.
وهو من الأساس اعتبر أن الكلام في الصفات والقول بالقدم النوعي من الأمور المشكلة ومن محارات العقول فقال: “الكلام في سائر الصفات كـ: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، والكلام في تعدد الصفة واتحادها وقِدَمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية عمومية متناولة الأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب فإن هذه مواضع مشكلة، وهي من محارات العقول، ولهذا اضطرب فيها طوائف من أذكياء الناس ونظّارهم”([10]).
ولم تكن فكرة القِدَم النوعي فكرة عارضة عند ابن تيمية، بل فكرة متأصلة عنده، قال: “في جميع صفات الكمال متى ثبت إمكانها في الأزل لزم وجودها في الأزل؛ فإنها لو لم توجد لكانت ممتنعة؛ إذ ليس في الأزل شيء سوى نفسه يوجب وجودها، فإذا كانت ممكنة والمقتضي التام لها نفسه لزم وجوبها في الأزل.
وهذا مما يدل على أنه لم يزل حيًّا عليمًا قديرًا مريدًا متكلمًا فاعلاً؛ إذ لا مقتضى لهذه الأشياء إلا ذاته، وذاته وحدها كافية في ذلك، فيلزم قدم النوع، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لكن أفراد النوع تحصل شيئًا بعد شيء بحسب الإمكان والحكمة”([11]).
والإشكال هنا كيف نعتبر الصفة قديمة، ثم هي هي تكون محدثة تحصل شيئًا بعد شيء، هذا أمر محال.
لكن للأسف توغلنا في مسائل لم يسلكها السلف، وكان يكفي إثباتها دون تفصيل، فليس مقتضى الإثبات وعدم النفي والتعطيل الخوض في هذه الأمور التي لم نكن مطالبين بالخوض فيها.
وقد شغب البعض على ابن تيمية فاتهمه بالقول بقِدم العالم، وهذه التهمة أبعد ما يكون ابن تيمية عنها؛ فالقِدَم النوعي ليس هو قِدَم العالَم، وكلامه يشهد على حدوث العالم، ويستدل بالحدوث على المحدِث -سبحانه.
ومن أسباب الوقوع في مثل هذه المحارات العقلية قياس الغائب على الشاهد، وأن ما يجري للبشر له شبيه بكيفية وقوع الصفات الإلهية.
لكن ابن تيمية في عموم فكره ومذهبه له كلام نفيس في نفي الكيفية؛ إذ يقول: “مذهب السلف -رضوان الله عليهم- إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات”([12]).
وذكر هذه المحالات لا يعني الطعن فيه أو في الإمام أبي الحسن الأشعري؛ فهؤلاء من أعلام الأئمة الذين يُقتدى بهم، ويؤخذ بكلامهم، وصدق القائل: لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صارم نبوة.
___________
الهوامش
([1]) أخرجه أبو الشيخ في “العظمة”، ح(4) عن أبي ذر، وقد ضعفه الألباني في “ضعيف الجامع”، ح(6220).
([2]) بيان تلبيس الجهمية، (1/333).
([3]) منهاج السنة، (1/247).
([4]) الفرق بين الفرق، ص(64) بتحقيقي.
([5]) السابق، ص(128).
([6]) نفسه.
([7]) منهاج السنة، (3/109).
([8]) نفسه.
([9]) من التراث الأشعري، ص(102) جمعي وتحقيقي.
([10]) محموع الفتاوى، (12/161).
([11]) السابق، (16/367-368).
([12]) نفسه، (4/6).