تحل علينا ذكرى الإسراء والمعراج لتجدد الحالة النفسية للمؤمنين، وتشحذ من هممهم لمواجهة ما يحاك بهم من كل جانب.
جاءت الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت كانت الأوضاع النفسية غير مستقرة، ولم لا وهو الذي يجري عليه ما يجري على البشر من متغيرات: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا} (الإسراء: 93)؟
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم فترة عصيبة في هذا الوقت حيث كذبه قومه، وحاربوا دعوته، وآذوا أتباعه، وحرضوا عليه سفاءهم يقذفونه بالحجارة، ونعتوه بالكذب والخيانة، وعزلوه وعشيرته في شعب أبي طالب طيلة ثلاث سنوات، وحالوا بينه وبين حجاج البيت الحرام. وعمدوا إلى منعه في الصلاة في الكعبة، بل ألقوا على سلا الجزور، بل حاولوا قتله، وزاد من الهم النفسي وفاة أهم سندين له وهما زوجته السيدة خديجة –رضى الله عنها– وعمه أبو طالب الذي كان يعد حائط صد بينه وبين قريش.
ألم رحلة الطائف
وحينما لجأ إلى الطائف رأى من أهلها السوء والشر حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرع وهو يتلقى الحجارة من سفائها حتى أدميت قدماه، ولم يجد مفرا إلا الاختباء في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فدخل البستان يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة، وهو الذي جاء إليهم منقذًا، فجلس إلى شجرة عنب وكأنما هي المرة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين، فقد أعياه الضرب والركل، ودماء شريفة تنزف من وجهه الكريم، ومن قدمه الشريف، فضلاً عن ذلك الجرح النفسي في قلبه الصديع المكلوم، والأسى الذي ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البرية – صلوات الله وسلامه عليه – يتوجه إلى ربه ضارعًا، خاشعًا، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة، وبدعاء صادق نبع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقه وجدانه المكسور: “اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك”[ابن هشام 1/ 420]
لقد كانت إصابته النفسية كبيرة، إلى الدرجة التي نراه لأول مرة يشكو إلى الله قلة حيلته وضعف قوته وهوانه على الناس.
لقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إصابة أبلغ من الناحية الجسدية من تلك الإصابة، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد.
لقد عاد إلى مكة بعد رحلة عصيبة على النفس، بعد أن تكالبت عليه الأحزان، وما إن بلغها حتى منع من دخولها فزادت من محنته النفسية حتى جاء المطعم بن عدي ونادى على أبنائه أن البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا.
كيف أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة؟
كيف قضيت يا رسولي ليلتك وأنت تتذكر الأحداث التي مرت بك؟
كيف كانت دمعاتك التي تساقطت وأنت ترفع أكف الضراعة إلى مولاك – وهو يعلم حالك سبحانه؟
لقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أشد الحاجة لمن يجدد نفسيته، ويخفف همه فكان ملجأه إلى البيت الحرام.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الروح حتى جاءه جبريل –عليه السلام– وهو نائم في الحجر، فأخذ بيده في طريق طويل قصير لإزالة ما علق به من شجون.
رحلة الأنس بالله
لقد أراد الله –سبحانه- أن يجعل من هذه الرحلة تفريجا للكرب، وقد كانت.. فما إن بلغ سدرة المنتهى حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم بمفرج الكروب –ليس له وحده ولكن لأمته من بعده– عاد وهو يحمل تكاليف الصلاة التي أصبحت بمثابة تفريج الكرب لكل من حذقه أمر أو تكالبت عليه الدنيا والمظالم، وسطرها الحبيب بقوله لبلال: “يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها” (رواه أبو داود).
لم تكن رحلة الإسراء والمعراج تخفيفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لكل من آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا.
كانت رحلة الإسراء والمعراج أفضل علاج للطبيعة النفسية؛ لأنها ألجأته صلى الله عليه وسلم –وأمته من بعده– إلى الله سبحانه وتعالى.
لم تكن رحلة الإسراء والمعراج رحلة بمعناها العادي؛ بل كانت رحلة لرسم مستقبل هذه الأمة وطبيعة المرحلة التي ستعيشها، ورسائل الراحة النفسية.
لقد مر حبيبنا بشواهد كثيرة أنسته همومه وآلامه، وشعر أن ما جرى له في الدنيا من ألم وحزن وهم وغم وكرب لا يساوي مثقال ذرة ما يعانيه أهل النار في الآخرة، فزادت قيمة الآخرة عنده، وعاف الدنيا وما فيها من ألم، وعمل على ترسيخ هذه القاعدة في وجدان أمته فقال: [لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ] (رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).
عاد النبي من رحلة الإسراء والمعراج بعدما أيقن أن الله سبحانه لن يتركه وأمته وسط الظلمات والمظالم حيث أكدها سبحانه في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(الروم: 47)، وقال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51).
لم تكن رحلة الإسراء والمعراج تخفيفا لكرب رسول الله أو علاجا لنفسيته التي ألمَّ بها كل أنواع القهر والظلم والاضطهاد، لكنها كانت علاجا لقلوب أمته من بعده إذا اقتفوا أثره وساروا على منهاجه صلى الله عليه وسلم.