التقيت قبل 20 سنة تقريباً في أحد مساجد مدينة مونشلادباخ الألمانية بخطيب الجمعة هناك، وكان رجلاً فاضلاً من أصل سوري، تعرفت عليه بعد الصلاة، وعرفت أنه طبيب، وأصرّ على استضافتي في منزله؛ طبيعة الكرم الشامي، واتفقنا على الالتقاء في منزله الساعة الخامسة مساءً، بعد أن ينتهي من عيادته، وأنتهي من جولتي في المدينة.
ذهبت في الموعد أنا وأسرتي لمنزله، ووجدت زوجته الفاضلة تستقبلنا أجمل استقبال، ولا كأن هناك ضيفاً جديداً واستعدادات فجائية، وأخذت زوجتي وأبنائي إلى حديقة المنزل ليلعب الأطفال هناك، وجلست مع الطبيب في جانب آخر من الحديقة نشرب القهوة الألمانية بصناعة شامية، نتجاذب أطراف الحديث.
سألت د. أحمد عن اختصاصه؛ فقال: طبيب نفسي، فقلت باستغراب: طبيب نفسي في ألمانيا؟! هذا البلد الجميل الذي يقدم الخدمات على أعلى المستويات، ووجود تعليم عالٍ، وعلاج راق، وخضرة دائمة، ووجوه باسمة، ودخل مناسب، وأجواء لطيفة، وطقس بديع، ومناظر خلابة، فمن أين يأتي المرض النفسي؟! فقال: نعم.. هذه القارة مقبلة على انتكاسة نفسية كبيرة، لذا.. فالمستقبل للطب النفسي.
فسارعته: كيف؟!
قال: كل ما ذكرته من أجواء طبيعية خلابة، قد ألفها الناس وأصبحت معتادة، كما اعتدتم أنتم على الطقس الحار، وأما الخدمات الراقية التي تجعل الإنسان يتوافر له كل شيء، فقد جعلته كالآلة اليومية بلا تجديد في حياته، ما لم تكن لديه روح المبادرة، وكلما بالغنا في التدليل دون إشراك الطرف الآخر بالمسؤولية؛ بالغ بالاسترخاء وقلة الإنتاج والعمل، وهنا ينشأ الفراغ ما لم يملأه بنشاط ما.
أضف إلى ذلك الفراغ الروحي الذي يعاني منه معظم الناس، حتى أصبح الكثير منهم يقول: إنه لا ديني، إضافة لأمور كثيرة أخرى جعلت الإصابة بالاكتئاب والقلق والوسواس القهري والتوتر وغيرها من الأمراض النفسية أمراً قادماً وبجدارة.
هذا ملخص حوار لأكثر من ساعة مع د. أحمد المراياتي، استشاري الطب النفسي المعروف، الذي له مشاركات علمية في مؤتمرات دولية.
وأستذكر هنا كلمة طبيب نفسي في الكويت: المتدينون غير معفيين من الإصابة بالأمراض النفسية، فهم يبقون بشراً، ويتعرضون لأمور وضغوط تسبب آثاراً نفسية عديدة، وكذا الأغنياء معرضون للإصابة بأمراض نفسية.
وهذه الأمراض النفسية ما لم تعالج أولاً بأول، فقد يصاب صاحبها بانتكاسة، وهذا ما نرى أثره من ارتفاع نسبة الانتحار في الدول الراقية، وارتفاع نسبة الإدمان في الدول النامية، وانتشار الاعتداء اللفظي والحركي والجنسي في العالم كله.
ويستدعي هذا الأمر لانتباه الأسرة لأبنائها، فهم يتعرضون يومياً لاختراق تربوي وسلوكي في المدرسة والحي والنادي والتلفزيون والألعاب الإلكترونية والإنترنت والأصدقاء، إضافة للجانب الوراثي، فسوف يحظون بكم كبير من المتلقيات خارج نطاق السيطرة.
ويعد المعتقلون ظلماً والمهاجرون ذلاً الأكثر تعرضاً للأمراض النفسية؛ لذا نرى أن الحروب بشكل عام تطغى عليها روح الانتقام المرضي، فيكون القتل بلا حساب، والاغتصاب بلا حدود، ولنا في الحروب العالمية الأولى والثانية والمائة يوم، واليابان والصين، واستعباد دول أفريقيا، وإبادة الهنود الحمر والأبروجينيز.. وغيرهم أنموذج حديث لذلك.
ولعلها فرصة للمراكز البحثية لمناقشة الآثار النفسية للمهاجرين والمغتربين بشكل عام، وسبل مواجهتها قبل أن تتفاقم إلى آثار سلبية، فكم منهم من فقد دينه وقيمه لأسباب هو لا يعلمها! ولتكن لدينا صحوة للصحة النفسية، بإقامة ندوات وورش عمل حولها، وتدريب العاملين في المراكز الإسلامية والإغاثية عليها، ومراجعة الأطباء النفسانيين بلا حرج، كما نراجع طبيب العائلة، وليكن الارتقاء بالصحة النفسية هدف الجميع.