هي نجمة في عُلوّها، وقمرٌ في جمالها، وشمسٌ في دفئها، وهي بستان الحياة النضر الذي يشبع الجائع ويسر الناظر ويغني الفقير، ويدل على قدرة الله القدير، إنها النخلة السامقة التي لا تنكسر أمام الرياح العاتية التي تهب عليها في رحلة الحياة، تعطي مما عندها من كل ما تملك دون تردد أو تفكير، ليس عطاء ساعة أو يوم أو شهر أو سنة، بل في كل حياتها عطاؤها لا يتوقف، ومَعين حبها لا ينضب، وفيض دعائها لا يجف، ومهما يحصل فلا تستطيع أن تقتلع من قلبها جذور الأمومة التي حباها الله بها.
أيُّ نعمة يتنعم بها الأولاد وهم يتقلبون في حضن أمهم الدافئ! وأيُّ بركة تحل على حياتهم في وجودها معهم وبينهم! بل أيُّ أجرٍ ينالونه من الله حين ينفقون أعمارهم في طاعتها وبِرّها ويصرفون أوقاتهم في حبها وإسعادها!
لقد جعلها الخالق سبحانه سبباً في وجود كل إنسان، إذ جعل مقره مكيناً في رحمها، وعَيشه تسعة شهور ببطنها، وغذاه من دمها ثم بعد ذلك من لبنها، وحين أتحدث عنها فلا أجد من الكلمات ما يكافيها؛ ولا من المعاني ما يدانيها، فيكفيها فخراً أن الله أوصى ببرها، فقال: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ﴾ (لقمان: 14)، ونوّه رسوله صلى الله عليه وسلم بمكانتها وفضلها، فقد جاءه رجل سائلاً: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أبوك” (رواه مسلم)، كما جعل دخول المسلم الجنة مع السابقين مرتهناً برضاها وبرها، فقال: “لا يدخل الجنة عاق” (صححه الألباني، السلسلة الصحيحة).
وقد ظن بعض الناس أنهم يكرمونها حين جعلوا لها يوماً في العام يظهرون فيه طقوس المحبة والولاء المتمثلة في هدية ببضعة جنيهات زهيدة قد لا تحتاج إليها، أو باقة من الورود التي سرعان ما تذبل وتموت، أو بطاقة تهنئة ترسَل إليها عبر البريد أو عبر “الواتس” أو “الفيسبوك” كما هي الحال في هذه الأيام! وقد تكون زيارة عابرة سريعة لا تلبث أن تمر وتنتهي دقائقها! فهل هذا هو المطلوب منا تجاه أمهاتنا؟ وهل هذا هو واجبنا نحوهن؟!
إليك يا كل أُمّ:
أنت التي اصطفاك الله لخير مهمة، وأسمَى هدف، وأنت منجبة الذكَر والأنثى بإذن الله، وراعية الأسرة، أنت مربية الأجيال لله عابدين، ولعباده نافعين، هذه التربية الصالحة التي استحققت بها دعاء الولد لك بأمر الله؛ ﴿ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا “24”﴾ (الإسراء)، يا مَن تعرفين أن مهمتك الكبيرة ليست هي الحمل والولادة والرضاعة فحسب، بل هذه هي البداية، وما يتبعها أهم وأكبر، إنها حسن التربية والشراكة بينك وبين زوجك في تربية الولد على الصلاح والتقوى، لكن نصيبك فيها أوفى، وحظك منها أكبر؛ إذ يقع على كاهلك الحمل الأثقل والجزء الكبير من هذه التربية، فهي مهمتك الأولى بعد الإنجاب، وهي وظيفتك الربانية التي كرمك الله بها وفرض لك بسببها من البر أعلاه ومن الدعاء أخلصه، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا دخل البيت قال لأمه: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول أمه: وأنت رحمك الله كما بررتني كبيراً.
فتربية الأولاد هي المهمة الأولى في حياتك قبل أن ترتقي سلم وظائف الحياة الأخرى، وحق لك أن تفخري بهذه الوظيفة التي كلفك الله بها، فهذا هو مشروعك الأعظم أجراً في الدنيا والآخرة، ورصيدك الحقيقي الذي لا ينفد، فاستعيني بالله على إتمامه بنجاح، وأخلصي النية، وتعلمي فنون التربية الصالحة لتعيني أولادك بعد ذلك على برك، وأبشري يا أماه، يا من قمت بتبني هذا المشروع العظيم، ولم تَكِلي تربية ولدك إلى الخادمات والحاضنات، وحملتِ الأمانة بإخلاص وصدق وقد جعلها الله بين يديك وديعة قمت بحفظها وتنميتها واستثمارها، لتقدمي الإجابة حين السؤال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه: أحفِظ أم ضيَّع” (صحيح ابن حبان)، فكان لك الربح الأوفى في الدنيا من البرّ أتمّه، وفي الآخرة من النعيم أعظمه.
الزَمْ رِجْلَها فَثَمَّ الجنةُ:
قالها النبي صلي الله عليه وسلم لمن جاءه يستأذنه في الغزو، «أمُّكَ حيَّةٌ؟ الزم رجلها، فثم الجنة» (صحيح الترغيب)، فهو لم يستأذنه في السهر مع أصدقائه، ولا للجلوس على مقاهي الإنترنت أو الهاتف، أو للتنزه والسياحة، بل ليجاهد في سبيل الله! وكأنَّ بره بأمه التي تحتاج إليه لا يقل أجراً عن الجهاد والغزو، ولعل هذا ما جعل ابن عباس رضي الله عنه يقول: «لا أعلم عملاً أقربَ إلى الله عز وجل من برّ الوالدة» (رواه البخاري في الأدب المفرد).
إن بر الأم وإدخال السرور عليها مقدّم على شهوات النفس وحظوظها؛ بل على نوافل العبادات، ذلك لأنه فريضة وطاعة لأمر الله، وطريق إلى الجنة، وقد ذكر ابن الجوزي أن هشام بن حسان قال للحسن البصري: إني أتعلَّم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعَشاء، فقال الحسن: تَعَشَّ العَشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إليَّ من حجةٍ تحجها تطوعاً».
بر الأم دائم لا ينقطع:
ألا إن بر الأم دائم في حياتها ولا ينقطع بموتها، فما أجمل أن تبر أمك في كل يوم وليس في يوم واحد من العام! تبرها بحبها والتقرب إليها، وحسن الحديث معها، وإلانة القول لها، وقضاء حوائجها، والسؤال عنها، لا ترفع عليها صوتك ولا تؤثر عليها زوجك، ولا تعص أمرها في معروف، تقر عينها بصلاح حالك، وحسن أخلاقك وطاعة ربك، تعرف لها حقها وفضلها عليك منذ أن حملتك في بطنها، إلى أن صرت رجلاً شاباً، أو فتاة يانعة.
تواضع لها وتذلل، ولا تأخذك مكانتك العالية ووظيفتك المرموقة إلى طريق العقوق؛ فتجعلك تتنكر لأمك، فتذكُر منزلتك ووظيفتك وأصدقاءك ومكتبك، وتعمل حساباً لكلام الناس تضيّع معه حقها عليك من الإحسان والطاعة والبر، وتنسى أنها هي من ربت وتعبت وسهرت ومهدت طريق النجاح لك، بل افخر بأمومتها لك ولا تستحيي منها أو من حالها، وقد كان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلّم الناس، فتقول له أمه: «قم يا حيوة! فألقِ الشعير للدجاج»، فيترك حلقته ويذهب لفعل ما أمرته أمّه به! وكان طَلْق بن حبيب من العبَّادِ، وكان يقبّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً لها، أما زين العابدين فكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: «إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟»، فرد عليهم: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها».
إنَّ اللَّهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهاتِ:
إن الفرصة أمامكم أيها الأولاد كبيرة، وباب الجنة ينتظر من يطرقه ببر أمه، وها هو إياس بن معاوية يبكي أمه حين ماتت، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابانِ مفتوحان إلى الجنة، وغُلّق أحدُهما.
عليك بالدعاء لها في حياتها، واستغفر لها بعد مماتها، وتصدق عنها وصلْ أرحامها، وتذكر دائماً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهاتِ» (رواه البخاري)، فاستعن بالله في برها حية وميتة، واعلم أنك مهما فعلت فلن توفيها حقها، «فاتقوا الله ما استطعتم».
______________________________
(*) ليسانس شريعة – ماجستير الدعوة – جامعة المدينة العالمية