لا أحد يحب أن يرى غيره أفضل منه إلا الوالدان والمُعلم، فكما أن الولد امتداد لأبويه فالتلميذ لأستاذه كذلك. وبقدر ما يبذل المعلم من نفسه ووقته وروحه لمن يُعلمه سيرى ثمرة جهاده ونتاج حياته، وليس أسعد لقلبه وأسكن لخاطره من أن يرى غَرْسه قد اشتد عوده واستغلظ واستوى على سُوقِه. أردنا من هذا المقال أن نتعلم من سادتنا العلماء الكبار كيف تكون العلاقة بين المعلم وتلاميذه، وأوضحنا عبر مواقف من سيرتهم أنها بُنِيت على المحبة والثقة والتقدير، وما أحوجنا إلى بناء هذه النماذج في عصرنا.
إنَّ المُعلم حقاً من يرى في تلاميذه وطلاَّبه مستقبله وصدقته الجارية، يراهم قرة عينه وثمرة فؤاده وبهجة قلبه، غايته أن يكونوا أعلاما ينشرون الخير وينالون الدرجات العلا، إنه يجهد من أجلهم، ويتعب لإفادتهم ونفعهم، يُسَرُ قلبه بالطالب الجاد الذي يكثر السؤال والنقاش والبحث ويجيد الحوار المعرفي. إن المعلم الربَّاني والمٌربي الحكيم والفقيه الحصيف مَن يصنع قادة للرأي وأئمة في الفكر ودعاة للحق، إنه يريد أن يراهم وقد سبقوا، ويوم يخالفونه الرأي بعلم وحكمة فهو دليل الرشد وكمال النضج وهو غاية المطلب عنده. إن المربي الحكيم والفقيه الحصيف من يرفض النسخ المكررة، فهو يوقظ فيهم حرية التفكير وتدبر الأدلة واستقلال الاجتهاد، ذلك لأن مسيرة التجديد الفقهي والفكري لن تتواصل مع فلسفة التقليد والاتباع.
كيف صنع الأئمة الكبار من تلاميذهم فقهاء أفذاذاً؟
جولة سريعة في سيرة الأئمة الفقهاء وعلاقتهم بتلاميذهم لنقف على منهجية صناعة الفقهاء والعلماء، ليضع كل مُعلم ومعلمة في عصرنا خطته ويراجع طريقته، ويستنهض هِمته.
مع الإمام أبي حنيفة
قصته عجيبة في انصرافه عن التجارة إلى طلب العلم، وكان من تدبير الله تعالى له أن رآه الإمام الشعبي يتردد كثيرا على السوق للتجارة فقال له: “عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال : فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم، فنفعني الله بقوله”، وهكذا أهدى الإمام الشعبي للعالَم فقيه الدنيا أبا حنيفة رحمه الله. وكم من ذَهَب مخبوء، وكم من كنوز مدفونة تنتظر المتوسمين ليخرجوها للوجود فتنتفع بها الكائنات.
كيف كانت علاقة الإمام أبي حنيفة بتلاميذه؟
يقول الإمام محمد أبو زهرة: “وكان لتلاميذه مكانة الأحباب في قلبه، حتى إنه كان يقول لهم: “أنتم مَسارّ قلبي وجلاء حزني”، كانت علاقته بهم علاقة الأب بأولاده، فيواسي المحتاج منهم بماله حتى أنه كان يزوج من يبلغ منهم سن الشباب وليس عنده ما يكفيه. كما كان يتعهدهم بالنصح والإرشاد، ورُوي عنه من ذلك الكثير. أما عن طريقته في التعليم فكانت تعتمد على الحوار الحر، كان يُلقي بالمسألة ويترك التلاميذ يتناقشون ويتصايحون حتى ترتفع أصواتهم، وربما يعارضونه اجتهاده ثم يلقى بقوله ورأيه في نهاية الحوار.
أشهر تلاميذه
أبو يوسف قاضي القضاة ومحمد بن الحسن الشيباني، هما أبرز تلاميذه وأنجبهم وقد خالفاه في مسائل عديدة، ولم يكن اختلافهم اختلاف حجة وبرهان بل اختلاف زمان ومكان، ولا ريب أن أسعد الناس بهما هو معلمهم وشيخهم الذي سكب في نفوسهم حب العلم والمعرفة ونَمَّى فيهم مَلكة الاجتهاد والنظر المستقل. لم يدر في خلد الإمام أن يصبح أشهر تلاميذه الإمام أبو يوسف قاضي القضاة في دولة حكمت الدنيا قرونا. وتلك رسالة لنا جميعا أن نصدق الله فيمن نُعلمهم فلا ندري أيهم يفتح الله على يديه العقول والقلوب. {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود: 123).
بين الإمام مالك والشافعي
تتلمذ الشافعي عليه تسع سنوات وكان من فراسة الإمام مالك ما رواه الشافعي قائلا:” لما سِرْتُ إلى المدينة ولقيت مالكا وسمع كلامي نظر إلي ساعة – وكانت له فراسة – ثم قال: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال: يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن” وهذا هو المعلم المربي الذي يَنْفذ إلى عمق تلميذه فيحسن توصيته وتوجيهه. ومن دلائل عظمة الإمام مالك أن الإمام الشافعي ألَّف كتابا بعد ذلك سمَّاه “خِلاف مالك ” خالف فيه شيخه في مسائل عديدة.
من دلائل عظمة الإمام مالك وجلال قدره أن ينتج إماما عظيما مثل الشافعي ولم يجعل من حبه وإجلاله لشيخه وعلو مكانته في قلبه مانعا من مخالفته، ذلك لأن التلميذ إذا شبَّ عن الطوق وأصبح ذو قدرة ومُكْنة على الاجتهاد فهذا من أدلة قوة المعلم ورسوخه كما هي شهادة له بجودة تعليمه وتربيته، والأستاذ حقا يسعد بمخالفة تلاميذه له حينما ينطلقون من اجتهاد ونظر ودليل، ويبقى الحب والتقدير مصون الجناب رفيع العماد.
الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل
عجيب أمر تلك العلاقة بينهما فإنك لا تدري مَن المُعلم والتلميذ، فالإمام أحمد يرفض أن يجلس مُعلما فترة إقامة الشافعي ببغداد، وعن وفاء الإمام للشافعي فقدوة للأجيال، رُوي عنه أنه كان يدعو في سجوده كل صلاة: “رب اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي”.
أمَّا عن الخُلق الرفيع والنَّفْس العالية للإمام الشافعي فأرع سمعك الآن: كان الشافعي يكثر من زيارة أحمد فقيل له: “زورك أحمد وتزوره؟ قلت المكارم لا تفارق منزله، إن زرته فلفضله، وإن زارني فبفضله، فالفضل في الحالين له ” يا الله على النفوس العالية الكبيرة والقلوب الفسيحة، إنه السباق نحو الرضوان الأكبر، وهكذا مضت علاقة كثير من العلماء بتلاميذهم عبر التاريخ والأمثلة كثيرة، ولعلنا نقف على بعض منها في عصرنا.
بين الإمام محمد الغزالي والإمام القرضاوي
وفي هذا المقام نذكر شيخنا الإمام محمد الغزالي حينما كان يُسْأل في بعض المسائل فيقول: اسألوا فيها الشيخ القرضاوي كان فيما مضى تلميذي وأما الآن فهو أستاذي، وكان الوفاء من شيخنا العلامة القرضاوي حينما كتب كتاباً في حياة الشيخ الغزالي عنه “الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن”، ولا يزال يُعلمنا الوفاء لشيوخه إذا ذكرهم، وهو الإمام الكبير أطال الله في الخير بقاءه. وكثيراً ما يردد العلامة القرضاوي، حفظه الله ومتع به، أنه يتعلم من تلاميذه.
إن عجبي لا ينقضي عندما أقرأ بعض المقدمات التي يكتبها الشيخ القرضاوي لكتب ومؤلفات بعض تلاميذه، حيث يتجلى فيها التواضع في أعلى صورته والكرم الواسع والحب والوفاء النادر لتلاميذه، وأكثر من ذلك، “ومع العالم الرباني الفقيه الأصولي د. صلاح الدين سلطان – فكّ الله أسره وفرَّج عنه ومَن معه. ضرب مثالا جديدا لم أره من قبل، وهو الوفاء من الأستاذ لتلميذه حيث جرت العادة أن يكون الوفاء من التلميذ لأستاذه ومن الابن لأبيه وأمه، ويتجلى ذلك عندما أصر أن يكتب أحد تلاميذه – وهو فضيلة الدكتور وصفي عاشور أبوزيد العالم المقاصدي المعروف صاحب العطاءات الثرَّة – مقدمة كتابه الرائع:” منهجيات في الإصلاح والتغيير من خلال سورة الكهف”
ما أريد قوله في الخاتمة أن المُعلم بصدقه وذكائه وحرصه وقدوته وعلو هِمته وعُمق رسالته التي يحملها يستطيع أن يكتشف المعادن ويوجهها وينميها ويطورها ويخرج للأمة والإنسانية كنوزا مخبوءة، محتسبا كل جهد ووقت ومال عند رب العالمين ذخرا ليوم اللقاء.
_____________________
المصدر: “مدونات الجزيرة”.