هذه المقالة المشتركة تعبر عن حالات زوجية رمضانية، تركنا القلم بين أيدينا ليفصح كل منا عن مشاعره، ولتشهد الصفحة الواحدة ذات الشقين المتعانقين مدى الاندماج الزوجي الذي يرفع شهر رمضان قدره ويزيد أثره.
أنا
قال الله عز وجل: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة: 187)، لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين؛ عقالاً أبيض وعقالاً أسود حتى أعرف الليل من النهار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار» (رواه البخاري)، قال ابن كثير: ومعنى قوله: إن وسادتك لعريض؛ أي إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.
وجاء في الحديث عن سهل بن سعد قال: أنزلت «وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ولم ينزل «من الفجر»، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين رؤيتهما، فأنزل الله بعده «من الفجر»؛ فعلموا أنما يعني الليل والنهار. (رواه البخاري).
انظري –صاحبتي- إلى رد فعل الصحابة من أوامر الله كانوا يتلقونها فيفعلون ما يؤمرون، دون نقاش أو جدال أو فلسفة أو تسويف، وإنما حِسّ مرهف، يبادرون بالعمل بظاهر ما يعرفون حتى يتبين لهم مراد الله من القرآن، أو ما يوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.. طاعة مطلقة، ومسارعة للتطبيق الحرفي.
انعكست هذه الآية في ذهني ونحن نعيش في الغرب، وفي حاجة للاتحاد والوحدة خاصة في أيامنا المباركة وأعيادنا الميمونة، فالآن في معظم دول العالم يعتمد المسلمون على تقاويم محسوبة لأوقات الصلوات خاصة الفجر، وهو مهم جداً في حالة صيام رمضان، حيث إنه توقيت بداية الصيام، فاجتهاد بعض العلماء للدعوة للأخذ بالحساب الفلكي اجتهاد معتبر، في ظني، حيث سيكون وسيلة للاجتماع، نعم.. ولا أنسى أن ربط المناسك والطاعات بالظواهر الكونية كدوران القمر، وبداية الأهلة، ورؤية الفجر الصادق على بُعد الأفق كما كان يفعل بلال أمر رائع كذلك، يقول الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189)، ويقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5}) (يونس).
أحسست أيضاً أن اليقين هو علامة هذه الآية، فاليقين في دخول الفجر للإمساك عن المفطرات، ثم الصلاة حيث قال الله: «حتى يتبين».
واليقين من ضروريات الإيمان يُبنى على الخبر الصادق والعيان، ثم درجة حق اليقين وهي تحصيل لما حصل من العلم والمشاهدة، وقد مثَّل ابن القيم لهذه المراتب الثلاث بقوله في «المدارج»: «مَن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقيناً ثم ذقت منه؛ فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين».
وهكذا في العبادات والإيمان، فاليقين شرط لذلك ولشهادة التوحيد، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (الحجرات)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها قلبه دخل الجنة» (رواه أحمد).
وكذلك في الصلاة، فاليقين بدخول الوقت من شروطها، وفي الزكاة اليقين بمرور الحول، وبلوغ النصاب، وسِن الأنعام، وفي الصوم اليقين بدخول الشهر، وفي الحج اليقين بالوقوف بعرفة في المكان والزمان الشرعيين، وفي كلمة «حتى يتبين لكم» إشعار بالوضوح، الوضوح في كل شيء، من أمثلة ذلك أنه لا تطبق الحدود الشرعية والتعازير إلا إذا وصلت إلى القاضي ببيّناتها.
أما الوقت والتوقيت والمواقيت فهي أشياء غالية في الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ» (رواه البخاري)، وفي رمضان خاصة لا يجوز إهدار الوقت، يقول ابن الجوزي عن زمانه: «رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر (الآن يا سيدي هناك الإنترنت!)، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة (أو الكورنيش)، أو في الأسواق (المولات).. فالله الله في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات».
إن صورة انسلاخ الظلام وحلول الضياء تعطينا الأمل في انبلاج فجر اليسر والخير والنصر، بعد العسر والفقر والقهر، سيأتي خيطنا الأبيض حتماً يضيء لنا الدرب، وينوّر لنا الطريق، وتنهزم فيه خيوط الظلام الكثيرة التي حطت على آفاقنا تشردنا وتأسرنا وتقتلنا وتغطي على نور الحق والحقيقة.
بداية الفجر هي بداية الطاعة.. استمرار الطاعة هو بداية النصر.
هي
إنه التثبت واليقين والصدق والوضوح، وهذه الآية الكريمة مثال لكل ذلك.
ألا ما أشد حاجتنا إليها –يا زوجي- في حياتنا كلها؛ في عباداتنا، ومعاملاتنا، وأخلاقنا، في بيوتنا ومجتمعاتنا، وفي كلامنا وحكمنا وقضائنا.
وهذه الأكلة التي قبل الفجر بالنسبة للصائم هي أكلة السحور المباركة، وهي ممتدة حتى يطلع الفجر الصادق، ومن السُّنة تأخيرها، وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: «تسحَّروا، فإن في السَّحورِ بركةً» (رواه البخاري)، وقال: «هلمُّوا إلى الغداءِ المبارَكِ» (صحيح النسائي)، فهي مباركة حقاً إذ يُستعان بها على طاعة الله بالصيام، وكذلك فإن كل سبب مباح يعين على الطاعة فهو مبارك.
وكون إباحة الطعام والشراب والمفطرات إلى ذلك الوقت يدل على التيسير، وأن الله تعالى يعلم حاجة عباده وضعفهم وأحوالهم المختلفة، قال ابن كثير: فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً.
وكما أن الصيام يحتاج منا لتبيُّن وتثَبُّت عند الإمساك والفطور؛ حتى يصح صومنا، فإن لدينا أعمالاً كثيرة تحتاج ذلك أيضاً، فما انتشار الشائعات، وسوء الظن والمشكلات الزوجية، وفساد ذات البين، والظلم في الحكم على المتهم إلا نتيجة لعدم التبين والتثبت حين القول أو السماع أو الشهادة، وما انتشار الأحاديث الموضوعة والأخبار الكاذبة عبر وسائل الاتصال الحديثة («واتساب»، «فيسبوك».. وغيرهما) إلا ونجد عدم التبين من صدقها سبباً رئيساً في انتشارها بين الناس.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذبَ عليَّ متعمداً فليتبوَّأْ مقعدَهُ من النارِ» (رواه البخاري)، ويقول: «آيةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ» (رواه البخاري)، ويقول: «عليكم بالصِّدقِ، فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّةِ، وما يزالُ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ صِدِّيقاً، وإيَّاكم والكذِبَ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرَّجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتبَ عند اللهِ كذَّابًا» (رواه مسلم).
أما قوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ففيه إشارة إلى أهمية المواقيت في الشريعة بصفة عامة، وفي العبادات خاصة.
فلو تبين للصائم طلوع الفجر الصادق ثم تناول شيئاً من المفطرات بعده بدقائق قليلة لما صح صومه، وإذا غيَّر مواقيت العبادات أو بدلها بغيرها فإنها لا تقبل منه، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر: واعلم أن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل.
لكننا للأسف نجد من يفعل ذلك، ونسمع من يقول: سوف أعمل حين أفرغ، سوف أتوب بعد سنة، سوف أتحجب بعد الزواج، سوف أحج حين أكبر، سوف أقرأ، وسوف أحفظ، وسوف أحافظ على صلاتي، وسوف.. وسوف.. حتى يأتي الأجل فجأة؛ (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {11}) (المنافقون).
أما طلوع الفجر الصادق فعلامة انكشاف الليل عن ظلمته، وانسلاخ النهار منه، ليسفر صبح جديد ليوم جديد وأعمال جديدة، وطاعات خالصة تذهب معها ظلمات الشك والمعاصي، ومحرمات الشهوات، ويُكشف النقاب عن شبهات الزور والباطل التي تندس وسط ظلام الجهل وتختفي عن الأنظار فلا تكاد تُرى.
إن نور الفجر يذكّرني بنور الحق الأبلج، ووضوح الشريعة في أحكامها وأوامرها ونواهيها، وإن المؤمن الصادق يستنير بنور الحق ولا يقع في الشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ، وبينَهما أمورٌ مشتبِهةٌ، فمَنْ ترَك ما شُبِّه عليه مِنَ الإثمِ كان لما استبان أَتْرَكَ، ومَنِ اجترأ على ما يشُكُّ فيه مِنَ الإثمِ أَوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما استبان، والمعاصي حمى اللهِ، مَنْ يرتعُ حولَ الحمى يُوشكُ أنْ يواقِعَه» (رواه البخاري).
ومع هذا النور يشع بريق الأمل حاملاً معه البشارات الربانية للمهتدين به، كما أن مع طلوع الفجر بدء الصيام وحلول البشارات على الصائمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وللصائم فرحتانِ؛ فرحةٌ حين يفطِرُ، وفرحةٌ حين يَلْقَى ربَّه» (رواه البخاري).