يلمس كتاب “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت” لأستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا، موضوعة جوهرية تعد من الموضوعات المغيّبة عن الوعي، هي الأهمية المركزية للعائلة الفلسطينية في إعادة تشكيل صور من المجتمع الفلسطيني في عدد من الأمكنة، العربية وغير العربية، بعد نكبة عام 1948.
ومع أن الصورة التي يحاول هذا الكتاب، الذي صدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، رسمها تستمد ألوانها بكل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من تجربة الفلسطينيين في الكويت، أو في سياق ما يسميه “نشوء الشتات الفلسطيني في الكويت”، ومع أن لهذه التجربة خصائص تنفرد بها دون مثيلاتها في بلدان أخرى، إلا أن من الممكن تعميمها على بقية المنافي وللسبب الجوهري ذاته، أي دور العائلة الفلسطينية المركزي في “إعادة بناء الروابط الاجتماعية والكيانات الجماعية التي ستمدّ القضية الفلسطينية بروح البقاء في المستقبل، وتمدّ في الوقت نفسه هذه المجموعة بالمقدرة على التأقلم مع أكثر الأحوال صعوبة وظلماً”، كما يقول المؤلف.
الكتاب في الأصل رسالة جامعية تقدم بها الغبرا إلى جامعة تكساس في عام 1987، قامت على عمل ميداني تمثّل في مقابلات أجريت في الكويت، ثم وبعد أن فكر في إصداره باللغة العربية، أضاف إليه فصولاً جديدة تتناول الحقبة الممتدة بين عامي 1990 و1993، وما أعقبها، وأيضاً بإضافة استقصاء ميداني و”لقاءات مكثفة تناولت ما آل إليه حال الجالية الفلسطينية في الكويت وصولاً إلى يومنا هذا”.
وفي إطار فترة زمنية تمتد على ما يقارب أربعين عاماً، تقصّى الكتاب الآليات والوسائل التي مكّنت الفلسطينيين، على الرغم من تشتتهم، من إعادة التنظيم والبروز من جديد، عبر تقسيم الفلسطينيين الوافدين إلى الكويت إلى فئتين، الفئة التي يسميها “النخبة” ويعني بها الفئة المتعلمة صاحبة الخبرة التي شكلت الموجة الأولى، بين عام 1948 ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وتتألف بشكل أساسي من بيروقراطيين وإداريين ومدرّسين ومدرّسات وأطباء ومهندسين ومحاسبين وضباط في الشرطة ورجال أعمال وأكاديميين. أما الفئة الثانية فهي فئة “الفلاحين” التي كانت النكبة عليها أشد وطأة، وكانت الخيارات المتاحة أمامها أكثر محدودية من تلك المتوفرة لمجموعات اللاجئين الفلسطينيين الأخرى ذات التحصيل الأعلى من سكان المدن.
إلا أن هذا الانقسام لم يمنع تقاطع العلاقات بين أبناء المدن والفلاحين، كما يرى. يقول المؤلف: “كانت النخبة الفلسطينية الآتية إلى الكويت في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات تنسّق جهدها مع المسؤولين الكويتيين لترتيب أوضاع الوافدين الفلسطينيين الجدد”. وقاد هذا الواقع إلى صعود مجتمع فلسطيني جديد في الكويت، تطورت فيه علاقة متبادلة من الدعم والتكافل في القطاعين العام والخاص “وعبرت هذه العلاقات حدود المدن والقرى والبلدات وأمنت رابطاً ضرورياً جداً بين الشرائح الفلسطينية المختلفة التي كانت تشرع في إعادة بناء هيكلياتها”.
وظلت قضية التماسك العائلي، وبعدها التماسك الأوسع على صعيد القرية فالمدينة، وصولاً إلى تماسك العائلة التي يطلق عليها الكاتب “العابرة للأوطان”، أي التي تتعدد أماكن إقامة فروعها وجنسيات أفرادها، هي محور اهتمام الكاتب، وما سيقول إنه يقارب فعل النهوض أو الإحياء.
ويلمس القارئ لدى المؤلف تثميناً عالياً لهذا التماسك لمجتمع تعرّض للتدمير، فنهض من تحت الأنقاض، أو انبعث حياً من رماده مثل طائر الفينيق الأسطوري، ولكن الفرق أن ها هنا شعباً حياً وليس واقعاً أسطورياً، بدأ يجمع أطراف شتاته منذ وقت مبكر في أعقاب النكبة في كل مكان لجأ إليه ليقاوم ويتشبث بحق العودة، ليس بوسائل الحفاظ على بنية العائلة فقط، بل وببناء الذاكرة الجمعية، والأطر السياسية، وإطلاق الحركة الفدائية. وهذه هي الصورة الأكبر التي لا تمثل صورة الفلسطينيين في الكويت التي اعتبرها الكاتب “عينة” ممثلة للمجتمع الفلسطيني بمختلف شرائحه إلا تفصيلاً صغيراً منها.
ما قدّمه هذا الكتاب يمكن اعتباره جزءاً من “ذاكرة فلسطين”، أو جزءاً من تجربة فلسطينية شاسعة تحتاج شظاياها إلى تجميع، وتحتاج أيضاً إلى أن تبحث وتناقش في سياق ما يحدث الآن، لأن العائلة الفلسطينية كوحدة أساسية في بناء المجتمعات الفلسطينية في الشتات، أياً كان هذا الشتات، ما زالت تتعرّض حتى الآن للتشتيت ويتعرّض أي “مجتمع” فلسطيني في هذا المكان أو ذاك لحرب تشريد لا تتوقف.
ولعل السؤال الذي سيقفز فور الانتهاء من قراءة هذا الكتاب هو: أليست خاصية التجربة الفلسطينية الفريدة هذه (مركزية دور العائلة أو انبعاث المجتمع الفلسطيني) هي ما يتعرّض ولا يزال للهجمات البربرية على أماكن التجمعات الفلسطينية، سواء كانت مخيمات أم أطراف مدن أم عواصم؟