مع دخول العشر الأواخر من رمضان كل عام يكثر الجدل والجدال حول مدى مشروعية إخراج زكاة الفطر مالاً، ونظل ندور كل عام في ذات الدائرة وكأننا نبدأ النقاش فيها للمرة الأولى، ويُنبئنا هذا الجدل عن أزمة عميقة الجذور في الأمة؛ في إدارتها وتعاملها مع الاختلاف في قضايا الفروع، والاختلاف قائم منذ العهد النبوي بين مدرستين: النص والقصد، لكن تعامل الصحابة والسلف والأئمة معه لم يكن كتعاملنا نحن اليوم؛ حيث غدا الاختلاف في الفروع سبيلاً للتفسيق والتشنيع والتبديع والتحزيب والتفريق، بينما كان السابقون شعارهم قول الإمام الشافعي: “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”.
ومن تعاجيب الزمن أن ينتقل الخلاف في هذه القضية إلى الساحة الأوروبية، حيث نظام الحياة وإشكالية الحصول على الحبوب وإيصالها إلى المساكين دون خسارة مالية، فضلاً عن دلالات الوقوف عند ظاهر النص لدى المسلم الأوروبي الجديد، أو تفهم العقلية الأوروبية عموماً لفكرة إغناء الفقير يوم العيد بالحبوب دون المال!
على أن المسألة التي نحن بصدد مناقشتها يفترض ألا يقع بشأنها خلاف؛ لأن منشأ الخلاف فيها راجع إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه السابقون من الفقهاء، وللنص على العلة التي هي مناط الحكم، فكانت تلك العلة في عصرهم متحققة بالحبوب والأصناف الواردة في الحديث، بينما صارت اليوم نفس العلة متحققة بالنقود، ولهذا فإن المسألة كاشفة بوضوح عن أزمة العقل الفقهي المعاصر، وعجزه عن التجديد في أضيق الدوائر وهي دائرة استيعاب النص وتنزيل الحكم على الواقع، وفي هذا المقال أتناول باختصار دِلالات استمرار الجدل في المسألة كل عام، ومُرجِّحات القول بدفع القيمة في زكاة الفطر، كل واحدة منهما في أربع نقاط.
أولاً: الدِلالات الأربع للدوران في جدل الحبوب والمال
1- غياب فقه الاختلاف وقصده:
لقد تأسس التشريع الإسلامي على أصول وفروع، شكلَّت الأصول الثوابت الفكرية الجامعة للأمة، والفروع مساحات المرونة والاجتهاد ليُصبح الإسلام صالحاً لكل العصور والظروف والأمكنة، وقد اختلف الصحابة والتابعون في الفروع وقعَّدوا لذلك القواعد منها قاعدة: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، فلم ينكر أحدٌ على أحد في الفروع، لكنّ الأمة اليوم في إدارة خلافها في هذه المسألة الجزئية الفرعية الخلافية ينكر بعضُها على بعض، ويسعى كل فريق لإلغاء رأى الآخر بل صار الاختيار الفقهي فيها معقداً للولاء والبراء، والحب والبغض، والاتباع والابتداع، ومعياراً أصيلاً لقياس العلم والتدين، وإذا كانت الحال هكذا في خلاف معتبر فكيف ستكون فيما هو أعظم؟ إن الاختلاف في الفروع سبيل مؤدٍ إلى الاجتماع والوحدة، فكيف نجعله سبيلاً للتفرق والتباغض؟
2- الانشغال بالفروع والجزئيات عن الأصول والكليات:
من يراقب حال أمتنا يجدها انجرت إلى البقاء في تلك الجزئيات الخلافية تدور فيها كل عام لا تخرج منها إلى ما هو أهم وأعظم وإلى ما يتصل بوجودها وقِيَمها وهويتها، وأنه وقع تبديد لجهود وطاقات العلماء في تلك الفروع مثل مسألة القيمة، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، والاحتفال بالمناسبات الدينية، ولم نر اهتماماً واستنفاراً وسيلاً من البحوث والفتاوى حول واجب المسلمين في نصرة المظلومين والمعتقلين، أو إقامة العدل ومنع الظلم، أو مقاومة الاستبداد واستدعاء الشورى، أو محو الأمية والفقر، أم أن السُّنة والاتباع لا يُعرف إلا في إطار العبادات الفردية التي لا تمس الأنظمة المستبدة، أو تعكر عليها مسيرتها في ظلم الشعوب وإفقارها؟
3- نذير بتعقد أمر التجديد الفقهي، والاجتهاد الإبداعي:
عصرنا هو أكثر العصور كثرة للمستجدات وحفزاً للاجتهاد والإبداع الفقهي، ورغم ذلك بقيت قضية تجديد الفقه في دائرة: ماهية التجديد، وكيف نجدد؟ ومن المجدد؟ لكنَّا لم نلج بعد باب التجديد ولم ننتج فقهاً جديداً لعصرنا، وبقينا في دائرة الاجتهاد الانتقائي الذي يقوم الفقيه فيه بانتقاء رأي فقهي قال به السابقون، ثم يعمل على ترجيحه وتقوية دليله ليكون صالحاً للعصر، وهو ما حدث في مسألة القيمة في زكاة الفطر حيث رجَّح عدد من المعاصرين رأي أبي حنيفة ولم يكن اجتهاداً إبداعياً لم يسبقهم إليه أحد، ورغم ذلك لم تتقبله الأمة بقبول حسن أو قطاع كبير منها، فكيف ستكون الحال إذا كنا أمام الاجتهاد الإبداعي الإنشائي الذي نتجاوز فيه فقهنا الموروث وإن كان سيتأسس عليه؟ وهذا يضاعف من مسؤولية علماء الأمة ومفكريها أن تبذل جهدها لإيجاد البيئة الحاضنة للاجتهادات الفقهية الجديدة وإلا ستتعقد عملية التجديد الفقهي المنشود.
4- ظاهرة حضور الشكل والصورة وغياب الروح والقصد:
المسألة التي نحن بصدد النقاش حولها تؤكد ولع الأمة بالصورة والشكل على حساب الروح والجوهر، فترى قطاعاً من الناس يتقدمهم مجموعة من العلماء يرون إخراج الحبوب والطعام ولا يرون صحة غيره البتة حتى وإن تيقنوا من أنه ليس في مصلحة الفقير وباعثهم على ذلك هو: اتباع السُّنة، ومن عجيب ما قرأت رد أحد العلماء على الاحتجاج بتضرر الفقير وخسارته في علمية استبدال الحبوب بالمال قال: لعلها فرصة للفقير أن يتعلم التجارة ويربح!
وتلك قضية تحتاج بحق إلى دراسة اجتماعية ونفسية وسلوكية، فما الذي جعل قطاعاً كبيراً في الأمة بهذه السطحية الضاربة في فهم المسلمين للعبادات والأحكام؟ ومن المسؤول عن هذه الحال: العلماء، أم مؤسسات التعليم الشرعي، أم أنظمة الحكم؟ كما توجب على المختصين في مقاصد الشريعة أن يراجعوا جهدهم ونتاجهم، وأن يسائلوا أنفسهم لماذا غابت المقاصد وروح الدين عن حياة المسلمين رغم كثرت الكتابات المقاصدية، ومعاهد وأقسام مقاصد الشريعة؟ وهل يمكننا أن ننقل الفكر المقاصدي إلى السياسة والدعوة ومناحي الحياة إذا كنا قد فشلنا في تفعيلها فيما هو أهم وأوضح وهو دائرة الأحكام؟
ثانياً: المرجحات الأربعة لدفع زكاة الفطر مالاً في عصرنا
1- الترجيح بالنص:
روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري: فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”، قال ابن حجر في الفتح: وعلى غير عادة البخاري في مخالفته للأحناف أن اتفق معهم في إخراج صدقة الفطر نقوداً، وفي جواز إخراج العوض في الزكاة وبوب البخاري باباً سماه “باب العرْض”.
2- الترجيح بكثرة القائلين بجواز إخراج القيمة:
يُوهم من يتحدث في المسألة أن أبا حنيفة فقط هو من قال بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والحقيقة على خلاف ذلك، وهذه قائمة بالفقهاء الذين قالوا بالقيمة أحصاها فضيلة الشيخ الحبيب بن طاهر:
من الصحابة رضوان الله عليهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل، قال أبو إسحاق السبيعي من الطبقة الوسطى من التابعين، قال: أدركتهم -يعني الصحابة- وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وعمدة القارئ: 9/8).
ومن أئمّة التابعين: عمر بن عبدالعزيز، فعن قرّة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كلّ إنسان أو قيمته نصف درهم. والحسن البصري، قال: لا بأس أن تعطى الدّراهم في صدقة الفطر، وطاووس بن كيسان، وسفيان الثوري. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وموسوعة فقه سفيان الثوري: 473، وفتح الباري: 4/280).
ومن فقهاء المذاهب: أبو عمرو الأوزاعي، وأبو حنيفة النعمان وفقهاء مذهبه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، والإمام البخاري، وشمس الدين الرملي من الشافعية، ومن المالكية: ابن حبيب، وأصبغ، وابن أبي حازم، وابن وهب، وقال الشيخ الصاوي: “الأظهر الإجزاء لأنّه يسهل بالعين سدّ خلّته في ذلك اليوم”، وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قراراً بجواز دفع القيمة قرار 4/23، (يونيو) 2013م.
3- الترجيح بالقياس:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: “خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر”، وهو صريح في دفع الأعيان، لكن معاذاً رضي الله عنه فهم قصد الزكاة، ولم يتعامل مع النص على أنه تعبدي غير معلل فقال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس (أنواع من الأقمشة) في الصدقة مكان الشعير والذرة؛ فإنه أهون عليكم وأنفع لمن بالمدينة، وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولئن جاز في الزكاة وهي الأعلى جاز من باب أولى في زكاة الفطر وهي الأدنى.
4- الترجيح بالمقاصد:
شُرعت زكاة الفطر لمقصد منصوص عليه في الحديث الصحيح وهو: طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للفقراء والمساكين، وفي الحديث الضعيف على الأرجح: “اغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم”؛ فالمقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء تلك الأصناف بثمن أقل، فهل شرعت زكاة الفطر لإغناء التجار على حساب الفقراء، وإضاعة وقت الفقير في عملية التبادل والمقايضة؟ وبوسع الفقير أن يشتري حبوباً بالمال دون خسارة، ولا يسعه أن يحصل على المال إن أخذ حبوباً إلا بالخسارة.
إن القول بتعبدية الأصناف المذكورة في الحديث يوقعنا كمسلمين في حرج عدم مناسبة الإسلام لكل زمان ومكان، على أن الرافضين لدفع القيمة يلجؤون لتقصيد العبادة فلا يلتزمون بالأصناف الواردة في الحديث، ويقولون بإخراجها من غالب قوت البلد، وهو إقرار بالتعليل والتقصيد، وهو أساس ودليل دفع القيمة، غير أننا قلنا بالخروج عن الأصناف الواردة في الحديث إلى المال، وهم قالوا بالخروج عنها إلى غالب طعام أهل البلد.
____________________
(*) المصدر: “مدونات الجزيرة”.