أنا اليوم السعيد الذي تنتظره النفوس بلهَفٍ وشوق، وتتطلع إليه بفرحة وسرور، يكبرون الله فيه ويشكرونه على تمام نعمته باكتمال عبادتهم، وأنا اليوم الذي يبتهج فيه الصغار والكبار ويستعدون له ويتطلعون إلى مجيئه، فإذا ما أطللتُ عليهم بوجهي المحبب لديهم وجدتهم وقد أعدوا لي جديد الثياب ولذيذ الحلوى وطيب الطعام وجميل الهدايا، والكل متأهب للاجتماع الإسلامي الكبير في صلاة العيد، ومِن بعده الاجتماع الأسري في بيت الجدّ والجدة! في سعادة لا توصف، فهذا يتدلل على جدته، وهذا يحتضن جده، وهذا يقبّله، وهذا يريه ملابس العيد، وهذا ينتظر منه «العيديّة» التي لها مذاق آخر عن بقية النقود في غيره! فما أسعدهم بي، وما أسعدني بهم!
هكذا كنت يا أحبابي حين أزوركم، كنت أدخل عليكم في كل مكان ترتادونه؛ في مساجدكم وبيوتكم، في شوارعكم وطرقكم، في نواديكم ومتنزهاتكم، في مستشفياتكم وأسواقكم، بل في قلوبكم وعلى ألسنتكم! أجد نفسي في كل مكان أعيش أجواء بهيجة، مع قلوب متآلفة، ونفوس مطمئنة، وأسر مترابطة، وأوطان آمنة.
لكني الآن أشعر بالتيه والضياع، والتشويه والابتداع، بما لا يرضاه الشرع والدين، أحاول أن أشق طريقي إليكم لكنكم تضيقون عليَّ طريقي، ولا تفسحون لي حتى أصل إلى قلوب الأطفال اليتامى فأمسح على رؤوسهم، والأمهات الثكالى فأربت على أكتافهن، والفقراء المحرومين، والمشردين في الشوارع بلا سكن أو مأوى فأضمهم وأدخل البسمة على قلوبهم! أحاول الوصول إلى ضحايا الصراعات البشرية المتوحشة فأسعدهم، لكني للأسف أفاجأ بمن يختطفني قبل أن أصل إليهم!
أنا العيد الذي جعله الله تعالى بديلاً لأعياد الجاهلية، فقد روى أبو داود في سننه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟»، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر».
فأنا شعيرة من شعائر الإسلام، وجائزة من الله الكريم المنان، إذ جعلني أعود إليكم عاماً بعد عام، فأنا أرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعبادات، بل بتمامها واكتمالها، فأزوركم حين تتمون صيام رمضان، أو تتمون نسك الحج والعمرة لله، فأنا جائزة لمن أطاع ربه وقام بما أوجبه عليه صادقاً مخلصاً، وحق لما فعل ذلك أن يفرح، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه» (رواه مسلم)؟ قال ابن حجر: «قال القرطبي: معناه: فرح بزوال جوعه وعطشه، حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح طبيعي، وهو السابق للفهم، وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه» (فتح الباري شرح صحيح البخاري).
لذا فإن أول بيت أدخله بعد انقضاء رمضان هو بيوت المتقين الذين تحققت في نفوسهم التقوى وأثمرها الصيام والقيام، والصدقات والإحسان، أتقنوا أعمالهم وحسَّنوها، وبالإخلاص زينوها، فخرجوا من الشهر الكريم أطهاراً أبراراً مغفوراً لهم، ينتظرهم باب الريان، ويدعوهم باب الصدقات، ويتطلع إليهم باب الصلاة، وتشتاق إليهم الجنان.
صاموا وقاموا واعتكفوا، وبزكاة الفطر تطهروا وتزكوا، أما أخلاق الصوم فقد صارت لهم سجية ولحسن خلقهم مطية، لسان حالهم في أخلاقهم «إني امرؤ صائم» وإن أكَل لذيذ الطعام! أما بيوت العصاة فإنني أدخلها رغماً عني على استحياء، وإن ألبسوني حلل السعادة وأظهروا لي طقوس السرور، فإنني لا أحب أن أجتمع بمن طغا وتكبر، وعصا وتمرد، ولا أنعم بقرب من قصّر وأهمل، وفرّط وسوَّف، وإن لبس أحسن الثياب.
وفي هذا يقول ابن رجب: ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب، في ليلة العيد تُفرَّق خلق العتق والمغفرة على العبيد؛ فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلا فهو مطرود بعيد.
ويقول الحسن البصري: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد، كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد.
جولة مع العيد
أنا العيد الذي تزينني زكاة الفطر، وترفعني أصوات التكبير منذ أول ليلة لي، وأحظى باجتماع المسلمين؛ صغاراً وكباراً ورجالاً ونساء، في مصلاي الكبير، حيث يؤدون الصلاة الخاصة بي، ويقدم بعضهم لبعض التهاني لمقدمي إليهم، ويتزاورون ويتواصلون، وهذا مما يزيدني جمالاً وبهجة.
وقد أباح الله تعالى السرور في يومي، واللهو المباح، فعن عائشة رضي الله عنها قالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَار، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْر: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيداً وَهَذَا عِيدُنَا» وفي رواية: «وَفِيهِ جَارِيَتَانِ تَلْعَبَانِ بِدُفٍّ» (رواه مسلم).
لكني أجد مشقة وحرجاً شديدين هذه الأيام وأنا أتجول في بيوت كثيرة لعباد الله فلا أجد من يستقبلني الاستقبال الواجب اللائق بي، فربما قضوا ساعاتي الأولى في زيارة المقابر! وقد دخلت مرة بيوتاً لأبث الفرح في أرجائها فإذا بهم يستقبلونني بالبكاء والنحيب رغماً عنهم، حتى كدت أهرب وأنفرط من بين أيديهم! ومنهم من يبكي شوقاً وتحناناً لوطنه وأهله وأسرته، وأمه أو أبيه الذي مات قبل أن يراه، وقد تغرب وهاجر عنهم إما بسبب لقمة العيش، أو قهراً وظلماً ونفياً، أو بسبب الحروب وما يتبعها من ويلات وفتن تدع الحليم حيران! فتمنيت أن أكون سبباً في التخفيف عنهم وإدخال الفرح عليهم ولو لحظات قليلة.
زرت بيوتاً كثيرة فيها أرامل لا معيل لهن إلا الله، وأيتام بلا أمّ ولا أب لا يعرفون البسمة فضلاً عن اللقمة! وقد رأوا قبل يُتْمِهم ما يشيب لهوله الولدان، وصغار مشردون لا يجدون من يرحم ضعفهم ويكسو عريهم، يفتشون عن طعام العيد في النفايات! وآخرون ينتظرون خروج ذويهم من السجون والمعتقلات، ومرضى لا يجدون مشفى يستقبلهم، أو ثمناً للدواء، أناس بلا مأوى، وأجساد بلا أعضاء، قد أحرقتها نار الحروب المستعرة، ودمرتها أسلحة الدمار الشامل! وبين هؤلاء جميعاً أقف حائراً أكاد أبكي معهم، ولا أعرف كيف أسعدهم بي وأسعد بهم!
هذا هو لسان الحال حين يأتينا العيد كل عام، يزورنا لنفرح به، لكن جراحات أمتنا وآلامها كبيرة، تفرقت وهي الأمة الواحدة، وصار الأخ يقاتل أخاه بسبب مذهبية مقيتة وعنصرية منتنة؛ مما جعل الواقع عند البعض منا أليماً، وسُدت منافذ الفرح في وجوههم فلا يجدون إليه سبيلاً، وأصبح الفرح في العيد يحتاج إلى مجاهدة كبيرة! وهذا يتطلب منا أن نعرف أن أيام العيد خاصة إنما هي للفرح وتناسي الهموم ولو لساعات قليلة، بلهو مباح وترويح عن النفس دون تجاوز أو معصية، وهي كذلك ساعات المواساة والمشاركة، والتحابّ والتوادّ، والتلاحم والانصهار في بوتقة الإسلام الواحدة؛ أن نأتلف ولا نختلف، وأن يشعر كل منا أن عليه في هذا اليوم واجبات يجب أن تؤدَّى تجاه من سُلبت فرحتهم بالعيد وسُرقت لفقر أو مرض أو يُتْم أو فقْد أو لأي سبب آخر.
فالعيد فرحة، فلنكن سبباً في إدخالها على مَن حولنا، بدءاً بالوالدين، والزوج والولد، والأهل والأرحام، والأصدقاء والجيران، وعلى من حُرم منها من الأيتام والأرامل والفقراء والمساكين والمرضى والضعفاء؛ فإننا إن فعلنا ذلك فسنسعد بالعيد ويسعد العيد بنا.
افرحوا في يوم العيد
افرحوا في يوم العيد، واجعلوا أيامكم كلها عيداً بحسن العمل والثبات على الطاعة والمداومة على فعل الخير وتخفيف آلام الغير، ولنعلم أننا في فرحنا بالعيد إنما نتعبد الله تعالى بذلك الفرح، فهو سبحانه القائل: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) (يونس: 58)، قال ابن عباس: «فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ» (رواه البخاري)، فالفرح يأتي مع العيد، فالحمد على نعمة الإسلام، والحمد لله على تمام الصيام، والحمد لله على فرحة الفطر وحلول العيد.
وغداً إن شاء الله سيعود المهاجر إلى عشه، ويرجع الغريب إلى وطنه، غداً بإذن الله سيلتقي الغائب بأهله، ويجتمع الشمل من بعد الفرقة، وتلتئم الجراح وتطيب برحمة الله عز وجل القائل: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {6}) (الشرح).