“لن يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أوّلها”، هذه القاعدة التي أطلقها الإمام مالك رحمه الله في القرن الهجري الثاني ما زالت إشارة سامية تُغري الأمّة بالأخذ بها والالتفات إليها بحقّها ومُستحقّها.
لقد مرّ على هذه القاعدة وأخواتها إلى اليوم أربعة عشر قرناً من الزمان، جرّب فيه كلٌ حظّه، وضرب فيه كلٌ بسهمه، فماذا جنى كلّ مجرّبٍ وضارب!
رأينا من نزل إلى الميدان بكلّ قوته، رافعاً لافتاتٍ تدعو إلى فكرته وهدفه، وراءه من أسباب السطوة ما يكفي للجمع والتحشيد والإملاء والإمضاء، كما نزل غيره ببضاعته، حتى امتلأت الساحة بأصوات كل داعٍ، وحجبت الرايات السماء بألوانها وأحجامها، فماذا كانت النتيجة؟ وجدنا كلّ ذلك ينحسِر انحساراً ما توقّعه أحدٌ حتى من أهله، وذاب كل ذاك الهيلمان، لكن لم يغِب اليقين عن أهله ممّن عرفوا معنى قاعدة مالك ومبلغ ما تحمله من تجربة مختصِرة للزمن من أوّل الزمن، وهؤلاء فقط همْ من تومئ لهم المقدّمات بما ستصل إليه أواخرها، وقد كان ما أشارت إليه وأشاروا.
أين هي اليوم تلك الرايات التي علتْ، والأصوات التي ارتفعتْ، والشعارات التي سُطّرت! حينما نزل أصحابها بدِلائهم مغرورين بالأماني والأمان؛ تبيّن لهم أن أمانيهم برقاً خلّباً، وأن أمانهم كان أحد مواضيع محكّ الأيام، وكانت النتيجة واضحة لا لبس فيها إلّا على من لم يهدِ الله قلبه، ويعرف دربه، إذْ عاد ليجرّب دِلاءٍ أخرى، أمّا الموفّق فقد وجد الحلّ الوحيد متمثّلاً في قاعدة مالك رحمه الله، فوضع حدّاً ولزِم حدّاً.
هذه الإشارة التي أثبتت عبر مئات السنين أنه لا بقاء لأيّ رايةٍ غير راية الإسلام، ولا دوام لصوتٍ غير صوت القرآن، هذا الدستور الذي كتب الله به رفعة قومٍ وضِعة آخرين، فلماذا لا تختصروا على أنفسكم الأوقات والجهود، ولماذا الإصرار على الفشل! أليس من الحماقة أن تجرّب المَجرّب الذي وصْلتَ فيه إلى طريقٍ مسدودٍ أو منكّسٍ أو مُهلِكْ!
وفي هذا؛ لا عجبَ ممّن تراه يسير ضدّ القاعدة أو يسبح عكس التيّار من الذين كتب الله عليهم اختيار خندق مواجهة الفطرة والدين الحقّ، ولكن العجب من أولئك الذين ظنّوا ولا زالوا يظنّون في حبائلهم النجاة، ويسارعون فيهم رغباً ورهباً، حتى وصل بعضهم إلى قناعاتٍ تحمل أفكار القوم، وخطواتٍ تسير في مسارهم حذو القذّة بالقذّة، والمشكلة الكبرى أنهم يرفعون فوقها راية الدين، ويُسبِلون عليها شعارات التقدّم والحضارة، ويدفعونها بدعاوى الحرص والضرورة ومواكبة العصر.
التاريخ يشهد بطوله وعرضه ما تعرّض له الدين الحقّ منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، مروراً بالحملات الصليبية الثمان على البلاد الإسلامية من عام 491هـ حتى عام 668هـ، وكذا الحملات المغولية من عام 616هـ حتى عام 658هــ، ثم تلاها الاستعمار الذي بدأ منذ الحملات الصليبية واستمر في العصر الحديث باحتلال الأوطان الإسلامية، وما زالت إلى اليوم بصيغةٍ أو بأخرى، وفي كل تلك الأحداث تحاول القوى الغازية فرض أديانها ومذاهبها وقوانينها، وفي سبيل ذلك أزهقت أرواح الملايين من البشر، وعصفت بالأخضر واليابس، وأبى الله إلّا أن يتمّ نوره، وأن يحمي بيضة الدّين بأهله العدول الذين حملوه بما أصلح به الأولون أنفسهم وحياتهم؛ فكان أن كتب الله له بهم البقاء، وأعلى بصدقهم راية الحقّ، وهلك كلّ من أتى بأسبابه المادية.
بهذا نذكّر مَن يسارع إلى مَن لا خَلاق له، ويسعى لإرضاء من لم يرضَ الله عنه، كما نذكّرهم بمن ظنّ أنه سيصلح المجتمعات بمذهبه وطريقته مّمن يحسبون أنفسهم على الإسلام أو على العروبة، فبذلوا في سبيل ذلك الغالي والرخيص، وكانت النتيجة هي ذاتها التي وصل إليها العدوّ الظاهر الذي جمع في يديه كل أسباب القوة.
لم تقصّر دعاوى الهدم ودُعاة الصلاح والإصلاح؛ إذ ظهرت علينا الرأسمالية والشيوعية والقومية وغيرها، ورأينا نهايتها تباعاً كأن لم تغنَ بالأمس، ولازال الهجوم على الإسلام تحت مسمّيات مختلفة يتم تكييفها نظراً للوقت والحال، لكن ما سيبقى ولا يفنى هو نور الله الذي أصلح له مَن يَصْلح له ويُصلِح به، ويراه ديناً قيماً صالحاً لكل زمانٍ ومكان، به التوفيق، وبحبله النجاة، وتحت ظلاله السعادة والخلاص، فرحم الله مالكاً، وأصلح الله الأمة.
____________________________________
(*) باحث- المركز العالمي لدراسات العمل الخيري