لطه حسين لغة متفردة تشعرك بأنه يرى ما يصف، بعيداً عن التنميط، وحصر الرجل في دائرة الاتهام تجد أديباً أبدع في كتاباته، ملأ الدنيا وبلغت شهرته الآفاق؛ يمتلك لغة قل أن تجدها عند من عارضوه أو حتى نالوا منه؛ قرأت سيرته الذاتية، فوجدت نفسي تتحدث إلي: عالما عشته وطموحا تملكني بل وعاطفة سايرته فيها؛ أكانت دوائر الاستشراق تبحث عن صيدها فوجدته في ذلك الفتى الصعيدي الطامح والممتلئ رغبة في أن يترك بصمة في الحياة الفكرية في عالم تخنقه الجهالة؟
كثيرون نالوا من الرجل لكن القليلين من أنصفوه حيث يوجب النقد أن نرى الكفتين ولا نرجح إحداهما على الأخرى ما لم يقم دليل على الاختيار. الرجل يبدع في الجملة العربية صياغة حيث يحلو له التقديم والتأخير، متخلصا من أحرف العطف كأنه ينظرها عبئا ثقيلا على القارئ؛ بل لعل طاقة التصرف في السرد تختزلها إلى ما بعد الانتهاء من الوصف، ومن ثم يتركك مشدوها منجذباً إليه.
في حياته تلك الشنشنة التي لازمته من طبيعة وطن درج فيه، ومن تربية أسرية غرست فيه حب الحياة ومقاومة العجز، ثم ثقافة أزهرية رصينة أمدته بما أعجله في ميادين القول ومسارب الفكر الخفية؛ لست كلفا به بل ربما نفرت منه زمن البداءة الأولى سيما والطريق لاحب متعرج الأنحاء تقف على مدارجه غيلان الجهل، أو نزق الفتوة الذي غادرني إلى زمن التروي، وفصل الحكمة التي تصاحب المرء في رحلته الأخيرة.
قسا عليه الشيخ محمود شاكر لكن ما أظنه إلا باكياً على مقالته في غير كتاب عن شيخه الذي أحبه.
السارد الشاعر
كانت مصر على موعد مع ثلة من النابهين أناروا درب العتمة والظلام في مطالع القرن العشرين؛ شوقي الأمير بلبل الشرق في غنائه وحافظ إبراهيم راويته وصناجة القول في الوادي؛ ثم الرافعي، والعقاد، والمازني، درجاً إلى طه حسين وحديث النشأة؛ يتبارى كل قبيل في مضمار يثري الحياة ولا يتركها مواتا أشبه بالعدم، ظالم من خال القرن العشرين ومطالعه جهلا أو تخلفا؛ لقد كانت الجامعة المصرية بما أحيته من تقاليد العلم وما استقدمته من عظماء النابهين (شاده، ونللينو، وبلاشير، ومارجليوث)، هؤلاء لا تبرأ ذمتهم من دوافع لكن كانت لهم أياد لا تُنكر على البحث العلمي ومخطوطاته القابعة في دهاليز الحفر تأكلها الأرضة أو تنهبها يد السراق.
غير أن رجلا بلغ به جده أن يبث في حياتنا تلك الآراء فينشر في مناهجنا وكتبنا تلك الحالة من الوهج والتفرد لجدير بالإكبار.
تحسبه ساردا فيروغ منك شاعراً، أو تحسبه فيلسوفاً فتدهشك حالة من الأكاديمية الرصينة، يكتب العربية فتتراقص أنامله وتبلغ به مكانته في تاريخ اللاتين منزلة سامقة؛ لكن الرجل له زلات ومعه وقفات، كذا يكون الإنصاف في مسائل الخلاف.
لقد ألقى طه حسين في مياه الفكر الراكدة بحجر، فأحدث دوامة تتابع تموجاتها، عارضه ثقات أثبات وناقشتْه أقلام أفذاذ، لكن العامة ممن حجب الرؤية عنهم قوم احتازوا المنابر وخايلوا بأصوات زاعقة نالوا منه؛ لقد تعدوه إلى نجيب محفوظ وسائر حاملي مصابيح التنوير؛ ألا ننزلق إلى هوة الفوضى ومباءة الجاهلية الأولى؛ بعد ما يقارب مائة عام على كتابات طه حسين هي دعوة إلى قراءة منصفة لرجل أثار صخبا في حياتنا، وترك إرثا نحتازه جميعا!
نحتاج أن نعمق ثقافة الاختلاف، ونربي أولادنا على تقبل الآخر حتى نخرج بهم من الحدية المقيتة أو ندعهم نهبا ﻷدلجة قاتلة، رحم الله من أرسوا قواعد الفكر النير.