– رهن خروجه بخروج كل فرد في المعتقلات فضرب أروع الأمثلة والتضحية في الثبات على المبادئ
– ضحى بكل مظاهر الترف بأمريكا وقت أن كان مدرساً بجامعتها وعاد لوطنه لخدمته وتحقيق الحرية لأبنائه
– مواقفه الصلبة كانت سبباً لاختياره عالمياً كأفضل برلماني بين عامي 2000 و2005م
– دافع عن غزة ضد العدوان الصهيوني ولم ينسَ سورية فهتف لها وأكرم رسول الله في أماكن كانت يُتهجم عليه فيها
– وضع منهجية عمله بمشروع «النهضة» إلا أن الواقع أكد وقوف جميع مؤسسات الدولة ضد تحقيق أهدافه
محمد مرسي الذي أسَرَ القلوب بوفاته المفاجئة، فانتفضت الجموع في كل بقعة من بقاع الأرض شرقها وغربها ترفع أكف الضراعة، راجية المولى سبحانه أن يتغمده بواسع رحمته.
محمد مرسي الذي صلى عليه جموع المسلمين في بقاع الأرض المختلفة، وأحيوا ذكره في ضمائر الناس.
محمد مرسي الذي ظُلم في فترة رئاسته كما ظُلم في محبسه الذي ظل فيه وحيداً ليس معه ورقة ولا قلم ولا حتى رفيق، حتى إن أمنيته الوحيدة كانت لمس المصحف فقط -رغم حفظه له عن ظهر قلب- فحُرم من ذلك.
محمد مرسي الذي كان يسعى لترسيخ معاني الحرية والديمقراطية في وطنه، إلا أن الجميع تكالب عليه وعلى شعبه من أجل وأد سعيهم للعيش في حرية ورخاء.
محمد مرسي الذي ظل ثابتاً في محبسه طيلة ستة أعوام دون أن يعطي الدنية في وطنه أو دينه أو شرعيته، بل رهن خروجه بخروج كل فرد في السجون والمعتقلات، فضرب أروع الأمثلة والتضحية في الثبات على المبادئ التي نادى بها؛ فأصبح أيقونة ملهمة لكل حر يسعى للعمل من أجل حرية الأوطان.
لقد أشعل رحيل د. محمد مرسي روح الحمية مرة أخرى وعزيمة الاستمرار بالمطالبة بالحرية -التي مات عليها مرسي- في نفوس كل الناس.
ففي خبر صادم أشاع الحزن على جميع الشرفاء في العالم، أعلن خبر وفاة الرئيس د. محمد مرسي، يوم الإثنين 13 شوال 1440هـ الموافق 17 يونيو 2019م، أول رئيس مدني منتخب في مصر، الذي جرى عليه انقلاب عسكري في الثالث من يوليو 2013م، قبل أن يتم إخفاؤه قسراً لمدة أربعة شهور، ليظهر بعدها أمام القضاء بتهم أيقن الجميع مدى تزيفها وهشاشة دوافعها، وقسوة المعاملة التي عومل بها رجل كان يعتبر أول رئيس مدني منتخب انتخاباً شهد العالم كله بنزاهته من قبل خصومة.
من هو محمد مرسي؟
محمد محمد مرسي عيسى العياط، نشأ في إحدى قرى محافظة الشرقية، تسمى العدوة بالزقازيق، وسط عائلة مصرية بسيطة لأب فلاح وأمّ ربة منزل، وله من الأشقاء أختان وثلاثة من الإخوة، كان مولده في 8 أغسطس 1951م، وكان أحد المتفوقين عبر مرحلة التعليم في المدارس، حتى انتقل إلى جامعة القاهرة ليلتحق بكلية الهندسة، حيث عمل معيداً بها قبل أن يخدم في الجيش المصري في الفترة من عام 1975 – 1976م كجندي بسلاح الحرب الكيماوية، وتزوج عام 1978م، ورُزق بـ5 من الأولاد.
بعد قضاء فترة الجيش استطاع أن يحصل على درجة الماجستير في الهندسة من جامعة القاهرة عام 1978م، ثم سافر للخارج فحصل على درجة الدكتوراه في الهندسة من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1982م.
وبعد حصوله على درجة الدكتوراه، ظل بالجامعة لفترة حتى حصل على درجة أستاذ مساعد في جامعة نورث ردج بكاليفورنيا في الولايات المتحدة بين عامي 1982 و1985م، ثم عاد إلى وطنه فعمل أستاذاً ورئيساً لقسم هندسة المواد بكلية الهندسة جامعة الزقازيق من العام 1985 حتى عام 2010م.
التحق بصفوف جماعة الإخوان المسلمين ليصبح عضواً في مكتب الإرشاد قبل أن يُختار رئيساً لأكبر حزب في مصر وهو حزب الحرية والعدالة في أبريل 2011م، الذي تم اختياره ليكون مرشحاً لهذا الحزب في انتخابات الرئاسة المصرية.
أفضل برلماني بالعالم
كان الرئيس مرسي وطنياً مخلصاً لدينه ووطنه؛ حيث ضحى بكل مظاهر الترف والرخاء بأمريكا وقت أن كان مدرساً بجامعتها، وعاد لوطنه من أجل خدمته والعمل على نزع الحرية من النظام الحاكم وقتها، فكان أن برز اسمه على الساحة مع انتخابات عام 2000م التي فاز فيها عن دائرة الزقازيق بالشرقية، ليصبح رئيس الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان في البرلمان، ويحمل على عاتقه كشف الفساد، ومحاربة مظاهره، حتى إنه وقف في وجه وزير الإسكان –آنذاك– إبراهيم سليمان لفضح ممارساته الفاسدة في الوزارة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أصبح صاحب أفضل طلب إحاطة للحكومة المصرية وقت وقوع حادث قطار الصعيد الذي احترق في العيد وأودى بالمئات من البسطاء، وكان لمواقفه الصلبة أن تم اختياره عالمياً كأفضل برلماني بين عامي 2000 – 2005م من خلال أدائه البرلماني؛ مما أهّله لخوض انتخابات عام 2005م التي انتهت بالتزوير الواضح ضده لصالح منافسه من الحزب الوطني.
لم يتوقف جهده عند ذلك، بل شارك في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير بالمشاركة مع د. عزيز صدقي وغيره عام 2004م، وشارك في تأسيس الجمعية المصرية للتغيير بالمشاركة مع د. محمد البرادعي وغيره عام 2010م، وشارك في تأسيس حزب الحرية والعدالة، ثم شارك في تأسيس التحالف الديمقراطي الذي ضم العديد من الأحزاب، وفي 30 أبريل 2011 تم اختياره رئيساً لحزب الحرية والعدالة بعد ثورة يناير.
مرسي رئيساً
كانت الأحداث في مصر متسارعة خاصة بعد ثورة 25 يناير التي أطاحت برأس النظام المصري في ذلك الوقت، حتى جرت انتخابات رئاسية، وضح فيها الصراع بين أنصار الثورة والثورة المضادة، إلا أنها أتت برجل من الميدان وهو د. محمد مرسي، غير أن الواقع كان يجلي أن الثورة المضادة – داخلياً وخارجياً- لن ترضى عن اختيار الميدان، كما لن ترضى برئيس مدني يؤسس لحراك ديمقراطي ويرسي قواعده داخل أكبر بلد في الوطن العربي.
وضع مرسي منهجية عمله في «مشروع النهضة» الذي اتخذه مشروعاً لتحقيقه، غير أن الواقع أكد وقوف جميع المؤسسات في الدولة ضد تحقيق أهدافه، بل سعت إلى إجهاض مشروعه، فعمدت إلى حل برلمان الثورة –السند الشرعي للرئيس– بحكم قضائي، فأصبح وحيداً وسط هذه الأمواج المتلاطمة، فسعى للاستعانة ببعض أطياف التيارات الثورية، فرفض الجميع التعاون معه اعتراضاً على تولي شخص ينتمي إلى التيار الإسلامي رئاسة البلاد، بل كوَّنوا جبهة لتكون عائقاً أمام ما يقوم به، وساعدهم تقييد المؤسسات ليد الرئيس، غير أنه ظل يعمل واستعان ببعض أصحاب الخبرات لتغيير وجه الواقع، إلا أن العدة كانت تعد للانقلاب عليه.
وهنا وجد مرسي نفسه رئيساً لمصر لكنه بلا دولة! حيث كانت هناك الدولة العميقة التي أبت أن تستسلم للمد الثوري الذي حاول اجتثاث الفساد من جذوره، إلا أن الرئيس محمد مرسي وجد نفسه وحيداً، بل أن التيارات والأحزاب التي شارك بعضها في الثورة وقفت في وجهه رافضة أن يكون على مصر رئيس من التيار الإسلامي، فتشكلت جبهة الإنقاذ، ووضعت الخطة لإفشال الجهود التي يبذلها مرسي من أجل الإصلاح.
تُرك مرسي وحيداً، فوقفت مؤسسات الدولة ضد ما يقوم به، بل وضع العديد منهم العراقيل أمامه، وعلى الرغم من سعيه للإصلاح، فإن العديد من المؤسسات سعت لإفشاله، بل وشنت ضده الحملات الإعلامية التي عملت على تشويه أعماله، وتهييج الرأي العام ضده، حتى نالوا منه وانقلبوا عليه، واختفى قسرياً –وهو رئيس دولة– لما يزيد على أربعة أشهر، ثم قدم للمحاكمات ليحاكم على ما قام به من جهود إصلاحية، وحرصه على كل ذرة تراب من وطنه، وسعيه لرفعة شعبه وإعزازه بأن يمتلك الدواء والغذاء والسلاح، بل وحمى شعباً أبياً من العدوان وهو شعب غزة، ولم ينسَ شعب سورية الحبيب فهتف: «لبيك يا سورية»، وأكرم رسول البشرية وصحابته في أماكن كانت يُتهجم عليهم فيها.
كان حلمه أن تكون أمته العربية والإسلامية هي أعز الأمم، لكن توقف كل ذلك باعتقاله وإهماله وإهانته بشكل متعمد؛ للضغط عليه من أجل التنازل عن شرعيته، غير أنه ظل ثابتاً حتى تهاوى الجسد مغشياً عليه في إحدى المحاكمات الهزلية –التي حصل فيها على براءة سابقاً- ثم تُرك بشكل أقرب للتعمد حتى فارق الحياة، ليدفن في جوف الليل تحت الحراسة المشددة التي ظلت محيطة بقبره بعد ذلك.
لم يجد الرئيس مرسي من ينصره أو يشاركه همّه، واستشعر ما يحاك له، فأعلنها في آخر خطاب له: «إوعوا (احذروا) الثورة تتسرق منكم، بأي حجة، الحجج كتير (كثيرة) والسحرة كتير والتحدي كبير، وإنتو (أنتم) قادرين تواجهوا هذا.. عايزين (نريد) نحافظ على ولادنا.. عايزين نحافظ على بناتنا.. لأن هما اللي هيربوا (سيُعِدُّوا) أطفالنا في المستقبل، ويعلموا أبناءهم أن آباءهم وأجدادهم كانوا رجالاً، لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون أبداً على رأي الفسدة، ولا يعطون الدنية أبداً من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم».
سطر محمد مرسي معاني التضحية من أجل وطنه بين أنصاره وشعبه الذي أحبه؛ فرغم محنته ومحاولة البعض أن يثنيه عن موثقه بأن يتنازل أو يطلب العفو، رفض بشدة، وقال: إنه سيسير على طريق سيدنا عثمان بن عفان، ثم قال: «وإن شاء الله لن أغادر سجني قبل أبنائي المعتقلين، ولن أدخل داري قبل بناتي الطاهرات المعتقلات، وليست حياتي عندي أغلى من شهداء الثورة الأبرار».
رحم الله محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب لمصر، وأسكنه منازل الأبرار والصديقين.