وأنت تتنقل بين صفحات الكتب التي تناولت موضوع التآمر على الإسلام، وعرته وفضحته، فإنك تخرج بنتيجتين رئيسيتين: الأولى هي أن المعادين للإسلام والمحاربين له استعملوا ويستعملون كل الوسائل الممكنة – المباشرة وغير المباشرة – للقضاء عليه، أو في أفضل الحالات تشويه صورته، والنيل من رموزه والتشكيك في ثوابته.
والثانية هي أنه بالرغم من كل الإمكانيات المتاحة لهؤلاء، والدعم الذي يحصلون عليه، وقوة الأسلحة التي يوظفونها في حربهم على الإسلام، فإنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى مبتغاهم والنيل من الإسلام، بل على العكس فإن الإسلام يزداد قوة وصمودا في وجه حمالاتهم ومؤامراتهم. وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن حنبكة الميداني في كتابه “أجنحة المكر الثلاث”: “لولا أن الإسلام حق في ذاته، مؤيد بتأييد الله تعالى، محفوظ بحفظه، لم تبق منه بقية تصارع قوى الشر في الأرض، والتي ما تركت سبيلا من سبل المكر به إلا سلكته، ولا سببا لإطفاء نوره إلا أخذت به، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.”
والدكتور حنبكة الميداني في كتابه تطرق لثلاثة نماذج من قوى الشر تلك، وهم المبشرون والمستعمرون والمستشرقون، وهذا ليس أمرا غريبا أن تكون تلك القوى المعادية للإسلام خارج دائرة الإسلام، وأفرادها من غير المنتسبين إليه، ولكن الغريب هو أن تظهر قوى شر جديدة محاربة للإسلام –سواء عن قصد أو غير قصد– ممن ينتمي للإسلام، ويدين به، بل ويعلن دفاعه عنه. ولا شك أن هؤلاء أضر على الإسلام من غيرهم، وأكثر تأثيرا في نفوس المسلمين. ومن أهم القضايا التي يركز عليها هذا التيار، ويخوض فيها ليل نهار، مسألة التراث الإسلامي.
التراث عندهم هو المحفز الأول على القتل والغزو والتكفير، والمنظر للعنف والإرهاب، والحاضن للتطرف والغلو والتشدد، والنابذ للآخر المخالف عقيدة ودينا، وغير ذلك من أوصاف سلبية، ومن ثم فهو في نظرهم سبب تخلف المسلمين، وسبب كل الآفات والمشاكل التي يعانون منها، وعائق في سبيل تقدمهم ورقيهم. ولهذا تعالت أصواتهم ودعواتهم لتنقيحه ومراجعته بل وحتى حذفه. فتجد بعضهم يطالب بالرجوع إلى القرآن الكريم فقط، وإلغاء كل ما سواه، رافعا شعار “إسلام القرآن الكريم”. وبعضهم يدعو إلى إلغاء فقه المذاهب الأربعة وحرق كتبها، مستهزئا بالأئمة والفقهاء. وبعضهم يصف أحاديث نبوية صحيحة بالكوارث، مبديا اشمئزازه منها، وساخرا من البخاري وغيره من علماء الحديث. وبعضهم يتعجب من طول عمر هذا التراث، ملمحا إلى أنه لم يعد صالحا لزماننا هذا. وغير ذلك من أقوال ومطالب وتحليلات وصرخات حتى إنه ليخيل إليك أن الأمر جلل تتوقف عليه حياة المسلمين واستقرارهم ، مما أسهم في تضخيم موضوع التراث الإسلامي حتى صار مادة دسمة لعدد من القنوات التلفزية، وحائطا قصيرا لكل من أراد الشهرة والأضواء.
إن موضوع التراث الإسلامي لا يحتاج لهذا الكم الهائل من الضجيج الذي يثيره هؤلاء، ولا ينتظر منهم مثل هذه الالتفاتة التي ينطبق عليها قول القائل “حق أريد به باطل”.
إن التراث الإسلامي لا يحتاج إلى تنقيح أو غربلة أو تصحيح وتقويم، فهو نفسه ينقح بعضه بعضا، ويصحح ويقوم بعضه بعضا، فمنذ بداية تشكله وهو يقوم بهذه العملية التي لم تتوقف على مر عصور الإسلام، والتي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. وقد كان واضعو هذا التراث ومؤسسوه الأوائل هم الداعين إلى هذا التنقيح والتصحيح، والمطبقين له على أرض الواقع.
فهذا أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل (الأئمة الأربعة) وأبرز وجوه التراث الإسلامي، وأهم مصادره، كانوا أول الداعين لهذا التنقيح والتصحيح، فقد ثبتت عنهم أقوال تنص على عدم الأخذ بآرائهم واجتهاداتهم وتركها إذا خالفت نصوص القرآن أو الأحاديث النبوية. فقد روي عن أبي حنيفة قوله: “إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي” وقال مالك: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه” وقال الشافعي: “انظروا في قولي، فإذا رأيتموه يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به، وإذا رأيتموه يخالفه فاضربوا به عرض الحائط” وقال ابن حنبل: ” كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنه في حياتي وبعد موتي” فأي دعوة إلى التنقيح أكثر من هذه، وأي جرأة على التراث أكبر من هذه.
ثم جاء بعد هؤلاء الأئمة تلاميذهم فنقحوا أقوالهم، وخالفوهم في كثير من المسائل، ومن طرائف ما يروى في ذلك أن ابن أبي زيد القيرواني (توفي 386ه) الملقب ب “مالك الصغير” انهدم حائط بيته، فربط في موضعه كلبا للحراسة، فقيل له إن مالكا يكره ذلك. فقال: “لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسدا ضاريا”.
وهذا ابن حزم الأندلسي ينقح التراث أيما تنقيح، ذلك أنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة فيه إلا وانتقدها بناء على مذهبه الظاهري حتى شبه لسانه بسيف الحجاج. فلم يسلم من نقده لا فقهاء ولا أصوليون.
وما زال العلماء في كل عصر من العصور ينقحون ويجتهدون بناء على ظروف زمانهم وواقعهم، ولن تتوقف حركة التنقيح ما دامت الظروف تتغير والأدمغة تشتغل.
—
* المصدر: إسلام أون لاين.نت.