إن الإيمان الصادق ليس مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة.. كلا، إنه اعتقاد وعمل وإخلاص.
ومهما اختلف علماء الكلام والجدل في العقائد حول مفهوم الإيمان وصلة العمل به: أهو جزء من مفهومه أم شرط له أم ثمرة من ثمراته؟ فإنهم متفقون على أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان الكامل.
وقد روي في الأثر ما يصور لنا حقيقة الإيمان: “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل” (رواه ابن النجار والديلمي في “سند الفردوس” من حديث أنس ورمز له السيوطي في “الجامع” بعلامة الضعف).
وقد ذكر القرآن الكريم الإيمان مقروناً بالعمل في أكثر من سبعين آية من آياته، ولم يكتف بمجرد العمل ولكنه يطلب عمل “الصالحات”، وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كل ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معاً.
دافع المؤمن إلى العمل ذاتي
والمؤمن بالدين عامة وبعقيدة الإسلام خاصة، لا يساق إلى العمل الدنيوي سوق القطعان. لا يدفعه إليه قهر حكومي أو ضغط خارجي، أو رقابة من سلطة تنفيذية تشهر عليه سيف التهديد بالجوع والحرمان أو عذاب الهون، كما يعرف في الأنظمة الاشتراكية.
وإنما يندفع المؤمن إلى العمل بحافز من نفسه، وباعث من ذاته، بإيحاء ينبعث من داخله لا سوطاً يسوقه من الخارج.. ذلك الباعث الذاتي هو الإيمان بالله وبرسالة السماء، وبمهمته في عمارة الأرض والسيادة على الكون.
إن المؤمن يوقن أن السعادة في الآخرة والنجاح في الأولى موقوف على العمل. الجنة في الآخرة ليست جزاء لأهل البطالة والكسل والفراغ، بل لأهل الجد والعمل والإتقان: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72)، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17).
الفوز في الآخرة بالعمل لا بالأماني
وقد هدمت عقيدة الإسلام ذلك الطمع الأشعبي، والأماني الفارغة التي جعلت صنفاً من الناس يحسبون الجنة حكراً لهم، أو عقاراً سيتوارثونه عن الآباء والأجداد، يستحقونها بمجرد الانتساب إلى دين معين أو الدخول تحت عنوان خاص.
أبطل الإسلام هذه الدعاوى العريضة، ورد الأمر كله إلى صدق الإيمان وحسن العمل: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111، 112) وبهذا رسم الطريق إلى الجنة: إسلام الوجه إلى الله وإحسان العمل.
ولم يكن هذا موقفه من اليهود والنصارى فحسب، في قد وقف نفس الموقف من الأشعبيين، من المسلمين أنفسهم، أولئك الحمقى الذين يتبعون أنفسهم هواها ويتمنون على الله الأماني، ويظنون أن النطق بكلمة الإسلام، أو التسمي بأسماء المسلمين يكفي ليفتح لهم أبواب الجنة، فيدخلوها بسلام آمنين، ولكن القرآن بين لهم بوضوح أن قانون الله في الجزاء عام لعباده قاطبة، لا محاباة عنده، ولا فرق بين طائفة وطائفة.
روى المفسرون للقرآن أن مجلساً ضم جماعة من اليهود والنصارى والمسلمين فزعمت كل طائفة منهم أنهم أولى الناس بدخول الجنة، اليهود قالوا: نحن أتباع موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه. والنصارى، قالوا: نحن أتباع عيسى روح الله وكلمته.
والمسلمون قالوا: نحن أتباع محمد خاتم النبيين وخير أمة أخرجت للناس. ولم يدع القرآن هؤلاء وهؤلاء، لدعاواهم وتنازعهم. فنزلت آياته حاكمة فاصلة، قاضية عادلة، تخاطب المسلمين في صراحة وجلاء: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123، 124).
______________________
(*) من كتاب «الإيمان والحياة».