إن كثيراً من الناس يشكون شقاء الحياة وبؤس العيش، ولو عملوا بالواجب عليهم نحو الحياة لم يشكوا منها، غير أن ميلهم عن النهج السوي، وابتعادهم عما فيه خيرهم وسعادتهم، يسلكان بهم طرقاً تضل، ويحملانهم أثقالاً تزهق الأنفس. فهم لذلك يندبون سوء حظهم ويشكون من حياتهم، ولو أنها أقلعوا عن الهوى واتبعوا سبل الهدى، فرموا بالشهوات والمنفعة الوهمية جانباً، ولم يعملوا إلا بما يوافق سنن الله والأسباب التي وضعها لعباده؛ لعاشوا عيشة راضية.
الحياة ثروة للمرء، فإما أن يحتفظ بها، ولا يفرط فيها، ولا يصرف منها شيئاً إلا عند الحاجة. وإما أن يبذر ويجود بها لأقل سبب؛ سواء كان محموداً أو مذموماً، ضارًّا أو نافعاً، جائزاً أو محظوراً، وبحسب احتفاظه بثروته وادخارها إلى وقت الحاجة إليها تكون سعادته فيها واجتناء الفوائد منها.
لقد خلق الله الإنسان، ووعده السعادة والخير، إن هو سار في السنن التي سنها، وأوعده الشر، إن هو حاد عن طريق الهدى، ولم يتبع الطريق السوي، وأبان له الأسباب وعرفه المسببات، وأوضح له أنه خُلق للسعادة وأنه لا يسلبها عنه ما دام منتهجاً سننها، معتصماً بحبلها، وتلك الأسباب التي عرفه إياها ظاهرة لكل ذي عقل سليم، غير أن اتباع الهوى، والميل إلى الشهوات، والسعي وراء المنفعة الخاصة، كل ذلك يصرف المرء عن النظر في شؤون الحياة الحقيقية، ويصده عن الميل إلى ما فيه سعادة حياته، وهناء معيشته.
وبينما نرى أحد الناس ذا ثروة طائلة، وعيشة راضية، وقصور فخمة، وأثاث ورياش، وخدم وحشم، وغير ذلك من وسائل الرفاه وأسباب النعيم، إذا به يصبح فقيراً لا يملك نقيراً ولا قطميراً، فيخدم بعد أن كان مخدوماً، ويعمل للناس بعد أن كانوا يعملون له.
ولو بحثت عن أسباب فقره بعد الغنى وبؤسه بعد النعيم وذله بعد العز، لرأيت أن الأسباب كلها ترجع إلى شيء واحد، وهو العدول عن سنة الله في خلقه، وعدم اتباع المناهج التي انتهجها، ليسلكها من أراد أن يكون سعيداً في حياته.
صاحب الثروة والغنى أمره الله ألا يكون بخيلاً شحيحاً بحيث لا ينتفع بجزء من ماله ذوو الفاقة والفقر، كما أمره أن لا يكون مبذراً يُذهب الأموال ويجود بها لأمر غير مشروع، أو عمل غير مبرر.
بل عليه أن يكون وسطاً بين التبذير والشُّح، بحيث يصرف المال في حاجةٍ وراءها نفع مشروع له أو لغيره، فإن خاف ذلك لأمر، وطرق باب البخل، عاش في الدنيا كئيباً كاسف البال متعباً ضيق الصدر، وإن صرف أمواله جزافاً، فلا يمضي عليه زمن إلا ويصبح صفر اليدين، فارغ الصناديق، فيندم حيث لا ينفعه الندم، وكان عليه أن يبقى محافظاً على سلوك الطريقة الوسطى، فهو سعيد في حياته لعدم وجود ما يكدر صفوه من الوسائل التي تذهب بأمواله، وتدعه في حرج عظيم، فانحراف الأولين عن النهج القويم أذهب بسعادة حياتهما، واعتصام الثالث بجبل الفضيلة وعدم الميل إلى طرفي الأمر أبقاه في سعادة دائمة وعيش رغد.
هذا إذا نظرنا إلى جهة السعادة والشقاء من حيث النعيم بالمال وغيره، وإن نظرنا إليهما من حيث صحة العقل والجسم والسعادة بالمنزل والأهل والأصحاب أو عدم ذلك، نجد أن القاعدة العمرانية المتقدمة وهي التوسط في الأمور تتماهى مع هذه الأشياء كما تماهت مع سابقها.
إن الحياة ثروة للمرء، فإما أن يحتفظ بها، ولا يفرط فيها، ولا يصرف منها شيئاً إلا عند الحاجة، وإما أن يبذر ويجود بها لأقل سبب؛ سواء كان محموداً أو مذموماً، ضاراً أو نافعاً، جائزاً أو محظوراً، وبحسب احتفاظه بثروته وادخارها إلى وقت الحاجة إليها تكون سعادته فيها واجتناء الفوائد منها.
__________________
المصدر: موقع “الألوكة”.