التفت إلي والدي، ثم نظر إلى تلك الرابضة كأنها حارس قوي، غرسها وحيدة من أخواتها.. إنها هنا في حديقتنا منذ آماد؛ في الصيف تتدلى ثمارها أشبه بقناديل خضراء معلقة؛ يدير رأسه ناحيتي، يظل يبحث عن أفكاره التي يختزنها لأجل الصغار؛ في العيد نلتف حوله.. إنه عبق آل جادو الطيبين؛ رغم أنه اعتاد أن يكرر ما سرده؛ لكنه في كل مرة يضيف شيئا جديدا، هل تصدقون أنه يعرف بلادا وأماكن تسكن ذاكرته، بكل تفاصيلها، حكاية السلطان الذي ابتنى مدن الأحلام، لكنه نسي أن يوصد باب القصر، تسلل إلى مخدعه ساحر، أحال كل آلات الشدو إلى علب من صفيح.
الشيخ الكبير أوتي حكمة أجيال، عادته حين يهم بخاطر ما أن تنفرج شفتاه عن ابتسامة تشي بسر وراءها.
من أين جاءت بذرة تلك الشجرة؟
سؤال لم أعتد عليه.
لعله يختبر قدرتي، حين أخبرته أنني تحصلت على شهادة الدكتوراه، قال: حين كنت أطوف بالبيت الحرام دعوت الله أن يرزقني ولدا يعرف أشياء غريبة؛ كان ذلك في العام الذي أخذ نجيب محفوظ جائزة نوبل؛ لم أدر ما الذي جعله يتمنى أن يكون ابنه -ذلك النحيل ذو الوجه الأسود والشعر المجعد كأنه نتوء بشري- حديث الناس.
بادرني متسائلاً: ويا ترى أين حصانه الذي مد رجله في وجه الخديو؟ أظن أنهم تركوه مقيدا حتى خارت قواه!
فالملوك يكرهون الخيول العربية يا ولدي!
أجاب!
أدرت وجهي حيث يمتد الأفق، تتهارش الكلاب؛ يعلو نباحها، جاء عم فرج بهدية إلينا؛ كلبة هجين، لا نباح لها، نسيت أن أخبركم: ربطتها تحت شجرة الليمون عند مدخل الحديقة الرئيس، يكره أبي الصمت والعجز، إنها كلبة لا نفع لها، احذر من مكر يراد بك!
هل يراني حامل سر عرابي!
نفوه بعيداً.. إلى بلاد الشاي الذي يحتسي بعض رشفات منه الآن؛ يركبون الأفيال، يسمع بهذا البلد، يعرفه ببلاد العجائب؛ أبقار لا تسقي الزرع؛ تتدلى من رقابها الحلي الذهبية؛ وهم من حولها عرايا، يبدون أشبه بهياكل عظمية مما حملناها إلى بطن النهر يوم ابتنينا المدرسة؛ حين كان يحج إلى البيت الحرام قابل بعضهم؛ إنهم طيبون، لكنهم على أي حال يركبون الأفيال!
أبي؛ هل تعلم أنه يوم انكسر جيشه؛ احتسى الخديو وجنود ولسن الخمر وما تزال المحروسة تشتعل نارا!
بدأ يستدعي شيئا من ذاكرته، جدي أخبره يوما أن أباه كان من الذين حاربوا معه الإنجليز، أوشك خنفس ذلك الخائن أن يشي به؛ آل جادو قوم جاؤوا من بعيد حيث مهبط الوحي!
لديهم حكايات غريبة لم يعد أحد يهتم بسردها، كأنما تلك التجاعيد في وجه أبي الشيخ رموز لما يحن بعد كشف بعضها.
لكل زمن يا ولدي رجاله!
تتقافز أزواج من اليمام فوق شجرة المانجو، تهمس القطة في أذني صغيريها، تدور أسنانهما كحجر الرحى، يتأهبان لقنص تلك الطيور الوادعة، يبدو أن خنفس لم ينته مكره بعد!
يوم نفوه إلى بلاد الشاي، انكسر حلمه، تنساه هؤلاء الذين تغوص أقدامهم في سبخ الدلتا وضيق الوادي!
دفن جدك سيفه عند جذر تلك الشجرة؛ حين تكون عاجزاً اترك الأشجار تمتص عرقك ومن ثم ترتوي به؛ فيوما ستطعم صغارك، أو يجدون عندها أثرا من آبائهم!
تلك عادة فيهم، حاولت أن أتهرب من عينيه، يبدو كمن يهب حكمة في زمن أصيبت عقارب ساعته بالخرف.
يسألني: وهل مات هناك وحيداً؟
بل تركوه يعود حطام فارس بلا سيف، أشيب واهن العظم، لم يحفل به أحد، وللمنفى قسوة النسيان، لكنه احتفظ بالبذرة الأولى لتلك الشجرة العملاقة التي تتراقص حباتها.