رولا إبراهيم حسانين
عالم متسع فيه من التناقضات ما يكفي لأن يجعلنا نبهت أمام ما يمكن أن نسترق منه الأمل، بأن ثمّة حياة يمكن أن تكون مثالية حتى إن كانت في داخلنا أو مع شخوص قلّة من بين العدم يمكن أن نختارهم في حياتنا كما لم نختر غيرهم، ولكن أحياناً يكفينا الجوف وما يحوي، وما حوى.
ضمن تقديرات عالمية تشير إلى ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمعات بصورة غير مسبوقة، ومع كل مرة أكون شاهدة على حالة انفصال أزواج أو مخطوبين، تُلحّ عليّ أسئلة كثيرة: “كيف، متى، لماذا، ألهذا الحد؟”، لم تكن هذه الأسئلة لتكون ملحّة عليّ بالإجابة، لولا أني رأيت من “الحب” بينهم ما ظننتُ أن لا حب كحب مثل هذه “النماذج المنفصلة”، لأن تصورات وانطباعات رُسمت في عقلي عنهم بأيديهم، طالما كُتبت فيهم أشعار الحب علناً بأيديهم، طالما تغزل كل منهم بالآخر أمام الجموع من المتابعين لهم على مواقع التواصل الاجتماعي من أصدقاء وأقارب، طالما وصف كل منهم الآخر بأنه النصف الذي ينقصه، وفجأة يعلنان الانفصال، وما زالت أسئلتي يتيمة الأجوبة، فهل تخلى النصف عن النصف، أم قرر الأنصاف الاكتمال وحدهما؟
ماذا لو أحببتم بصمت، لكي لا يوجعكم تبرير انفصالكم يوماً ما لكل الشاهدين على حبكم؟ ربما لا يوجع المنفصلين حجم ما كُسر بينهم، بحجم ما يوجعهم التبرير التي سيضعونه أمام السائلين.
ليس لعاقل أن يعي أن ثمّة موقفاً واحداً كسر ما كسر بين “النماذج المنفصلة”، لا بد أن تراكمات قاتلة أوصلتهما إلى هذا الحد، ولكن السؤال، لماذا بُنيت هذه التراكمات؟ لماذا لم يكن الحل بتحطيمها وليس البناء عليها؟ لماذا لم يبادر المخطئ بإصلاح ما كسره، ويكون النصف الآخر على استعداد لقبول الاعتذار وداً وحباً؟ هل راهن المخطئ منهما على الحب ليظل جامعاً بينهما مهما فعل أحدهما من قبيح؟ وهل رهان الحب فاشل، أم أن الروح غالباً تعاف الموت البطيء، وتهزل أمام كل ضغوطات الحياة، فتبحث عن عزلة عن النصف الآخر وانفصال أبدي؟ هل رهان الحب مجدٍ أمام أفعال مقيتة؟ هل الانفصال وحده الحل؟ أسئلة تولّد أسئلة، أسئلة لا طلاق منها.
لا أعلم لماذا نحن البشر جُبلنا على أخذ ما يناسبنا، وترك ما لا نراه يليق بواقعنا، نحفظ آيات قرآنية وأحادث نبوية وأشعاراً غزلية عن الحبيب، وننسى قاعدة اجتماعية مهمة أوصانا بها الرسول عليه السلام لحفظ أنفسنا وغيرنا من الأذى: “أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما” (رواه الترمذي)، ماذا لو أحببنا مَن أحببناهم بصمت ولم يكن ضجيج حبنا قد ملأ أعين ومسامع مَن يعرفنا ولا يعرفنا؟ ماذا لو أحببنا بصمت وبغضنا بصمت؟ ماذا لو كان هذا القول حاضراً في سير حياتنا الاجتماعية التي كلها مبنية بالأساس على الحب والبغض؟ لماذا هجرنا هذا القول وسلّمنا قلوبنا من أوجاع على “نماذج الانفصال” التي تجعلنا نتردد كل مرة في الوقوع بالحب والإقدام على الزواج؟
ماذا لو أحببتم بصمت، لكي لا يوجعكم تبرير انفصالكم يوماً ما لكل الشاهدين على حبكم؟ ربما لا يوجع المنفصلين حجم ما كُسر بينهم، بحجم ما يوجعهم التبرير الذي سيضعونه أمام السائلين: “كيف؟ لماذا؟ متى؟ ألستم العشّاق المغرمين؟ ألستم الولهانين وتعيشون في عوالم بعضكما لا تنتبهون للعالم حولكما؟ ألم يكن أحدكم السند القويم للآخر؟ ألم يكن أحدكم الكهف الذي يدفن فيه كل ما أراد دون تردد؟ ألم تكونا على حب وصفتموه بالذي يضاهي حب مجنون ليلى والخيام؟”.
على النقيض من ذلك، تفاجأت قبل أشهر بصديقة لي تبارك لأمها زواجها، بعد عشرات السنوات من العيش تحت مصطلح “أرملة”، هذه المرأة الميمونة لم تترك أبناءها، كانت لهم خير سند حتى أنهوا تعليمهم واستقرّ كل منهم ببيته مع زوجه وزوجته وأصبحوا آباء وأمهات أيضاً، هؤلاء ساهموا في زواج والدتهم على اعتبار أنه جاء الوقت الذي تلتفت فيه لنفسها ولحياتها، وأن تجد شريكاً يعينها على ما بقي لها من سنوات العمر.
ما فاجأني حقاً من هذه المنظومة الجميلة أنها كانت حجراً كبيراً لكسر قاعدة مجتمعية سائدة لا تقبل بزواج المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها غالباً، خاصة إذا كانت أُمّاً، سيفتي لها القاعدون “اقعدي على أولادك أفضل”، متناسين أن للمرأة على أي حال اجتماعي الحقّ في العيش كما أرادت، لها حقّ الشعور بالأمان، وإذا تمثل هذا الأمان في زواج جديد فلا ضير به، أبارك هذه المبادرة التي يجب أن تجعل الأبناء غير أنانيين في حق أمهاتهم وآبائهم، وأن يبحثوا عن مكامن الأمور لا سطحيتها، والنظرة العامة لها.
_________________
المصدر: “مدونات الجزيرة”.