– الله تعالى جعل بكل شعيرة روحاً تسري في الوجدان فتحيي القلوب والنفوس بحياة الضمير
– رغم اجتماع الحجيج من الجنسين بالملايين فإن الحج غرس في نفوسهم المراقبة وغض البصر
– إن لم يكن ضمير الإنسان موصولاً بالله فسيأتي يوم ويُعرض ذلك الضمير للبيع في سوق الحياة
يدفع الضميرُ الإنسانَ لبناء ذاته وتجنب الزلل، فمن كانت فطرته سليمة وضميره حياً؛ سار في طريق الإحسان وسيطر على زمام نفسه، حيث يؤدي ضميره دور الحارس أو المراقب الذي يحثه على فعل الخير، وينهاه عن كل قبيح.
فوجود الضمير والمشاعر التي يثيرها ضروري للإنسان؛ لأن فقدانها يؤدي به إلى الضياع، فقد نتعرض أحياناً لقلق واضطراب عقلي لعدم قدرتنا على اتخاذ القرار الصحيح لأمر ما، والضمير الحي هو ما ينير للإنسان الطريق القويم.
وقد وضعنا القرآن الكريم أمام ثلاث محاكم أدبية، هي: محكمة الضمير في قلوبنا، ومحكمة المجتمع من حولنا، ومحكمة السماء من فوقنا، فقال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {105}) (التوبة).
ووضع النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم أمام مرآة ضميره حينما قال في حديث أم سلمة رضي الله عنها: «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (متفق عليه).
إن الضمير هو مستودع السر الذي يكتمه القلب، والخاطر الذي يسكن النفس؛ فيُضيء ظلمتَها ويُنير جوانبها، وهو القوة التي تدفع نحو فعل الخيرات وترك المنكرات وحب الصالحات، وهو سبب تسمية النفس باللوامة، كما قال الحق سبحانه: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2}) (القيامة)، والضمير هو الرادع عن المعاصي والآثام الذي يجنبك مقاربتها ويثنيك عن تكرارها.
تعاني المجتمعات المسلمة، في هذا العصر، من غياب الضمير الحي الواعي، ذلكم الضمير الذي عودهم في غابر الأزمان أنه إذا عطس أحد منهم في المشرق شمَّتَه من بالمغرب، وإذا استغاث مَنْ بالشمال لامست استغاثتُه أسماعَ مَنْ بالجنوب، إنه لن يستيقظ ضمير الأمة إلا بيقظة ضمائر أفرادها؛ إذ كيف يستقيم الظلّ والعود أعوج؟!
ولقد جعل المولى سبحانه في كل شعيرة من شعائر الإسلام وشرائعه روحاً تسري في الوجدان؛ فتحيي القلوب والنفوس بحياة الضمير.
ففي شعيرة الحج -مثلاً- لم يجعل الله أي موقف فيه، ولا تلبية، ولا منسكاً من مناسكه إلا كان سبباً في تعميق مراقبة الله سبحانه وتزكية لضمير كل إنسان.
مراقبة السلوك
رغم اجتماع الحجيج من الجنسين من كل حدب وصوب، يقفون على صعيد واحد، مختلطين بالملايين، فإن الحج غرس في نفوس الحجاج قيمة المراقبة وغض البصر، فلا يُقبل حج أحد إلا إذا اكتملت أركان المراقبة لله والخشية منه في هذا الصعيد الطيب المبارك.
يقول المفكر والفقيه د. عثمان جمعة ضميرية: «وإذا نظرت إلى سائر المناسك وجدتها وسيلة لتربية هذه الرقابة الذاتية للضمير، فالحاج يطوف حول الكعبة، ويرف حولها نسوة، وقد يكون في الطواف شيء من الزحام مما قد يقع فيه البصر على ما لا يجوز النظر إليه من النساء الأجنبيات، وقد لا يكون هناك رقابة خارجية صارمة تضبط كل مخالفة من كل واحد من هذه الألوف من الطائفين حول البيت، ومع هذا كله لم يحرّم الإسلام طواف الرجال والنساء في وقت واحد، أو لم يجعل لهن مطافاً خاصاً.
ولعل في هذا أكبر الأثر في تربية الضمير، فالمسلم يُترك هنا لضميره ولوجدانه المؤمن الذي يحجزه عن فعل أي محظور عندما تكون الوسيلة بهذه المثابة، ولكنه يعلم أن الله تعالى يراقبه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن مخالفة ومعصية في الحرم ليست كغيرها من المخالفات، فهي عظيمة جسيمة، بل هي مضاعفة، حتى إن إرادة المعصية والهمَّ بها فيه تعتبر معصية يستحق صاحبها العذاب الأليم؛ (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {25}) (الحج)» ا.هـ.
والحج أيضاً سبيل لإيقاظ ضمير كل من تسول له نفسه سرقة متاع أو اعتداء على أحد؛ فالكل جاء لله شعثاً غبراً يرجون رحمة الله وعفوه؛ ولذا فقد أصقل الحج صفة المراقبة الشخصية في نفس كل مسلم وقف في صعيد الحج ملبياً مخلصاً لله، قال تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
تلبية تحيي الضمير
«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».. كلمات يصدع بها الحاج بأعلى صوته مذكّراً نفسه، وموقظاً لقلبه وضميره، فبدون ذكر الله لا تحيا الضمائر، وبدون الدعاء لله لا تسود المراقبة، فالحج بتكبيراته ودعاء الحجيج أداة طيبة ليقظة الضمائر الميتة لأصحاب القلوب السليمة التي ذهبت إلى الله وهي ترجو عفوه ورحمته لا ترجو لقباً تحمله.
إن المسلم إذا تجهّز لأداء فريضة الحج، فقد توجه بقلبه وروحه إلى رب البيت؛ طمعاً في مغفرته لذنوبه، فيحمل قلبه بين جنباته ولوعة المعاصي تؤلمه، حتى إذا وقف بين يدي ربه في صعيد الحج انهمرت قطرات الدموع لتمسح عنه ذنوب الخلوات ومعاصي السنوات، وتحيي النفس اللوامة لتكون حاجزاً بينه وبين المعصية بعد أن تطهر من الذنوب على صعيد عرفة، فعاد كيوم ولدته أمه، مراقباً لكل تصرفاته وأعماله، مسارعاً للتوبة والإنابة إلى الله سبحانه إذا وقع في المعاصي، فيكون أثر الحج في رعاية زهور النفوس اللوامة وحياة الضمير قد أتى بثمار طيبة.
ويكفي المسلم الشعور بأن الله تعالى يعلم ما يفعله العبد من خير، ويطلع عليه ويجازي ويثيب، ليكون ذلك حافزاً له على الإكثار من الخير والاجتهاد فيه، فمن ذا الذي لا يريد أن يراه ربه تبارك وتعالى على أحسن صورة في العمل؟! ومن هذا الذي لا تتطلع نفسه وتتشوق إلى أن يعلم الله منه الخير كل الخير؟! فيصل بذلك إلى درجة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
إن العالم اليوم يحتاج إلى ضمائر يقظة، ونفوس لوامة، وقلوب حية؛ لأنها إذا ماتت مات معها كل شيء، وساد الفساد والظلم والبغي، وإن كان الحج يوقظ ضمائر الحجيج، فهو أيضاً يجب أن يوقظ ضمائر كل مسلم آمن بالله رب العالمين.
يقول الشيخ السيد طه: «إن تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول، وبدونه لن يكون إلا مزيد من الشقاء مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها وطرق ضبطها للجرائم وإدارة شؤون الناس، فإنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين؛ وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن يرتشي، والكاتب أن يزور، والجندي أن يخل في عمله، والطبيب أن يهمل في علاج مريضه، والمعلم أن يقصر في واجبه، والقاضي أن يظلم في حكمه، والتاجر أن يغش ويحتكر في تجارته؟
إن ضمير الإنسان إذا لم يكن موصولاً بالله، فإنه سيأتي يومٌ ويعرض ذلك الضمير للبيع في سوق الحياة، وعندما يباع الضمير ستجد الصاحب يخون صاحبه، والموظف يمد يده، والعالم يبيع دينه، والقاضي يحابي حاكمه، والشاهد يزور شهادته، والفساد قد ضرب أركان الوطن».
فالحج بنفحاته الربانية فرصة لإحياء الضمائر، وإيقاظ النفوس اللوامة التي غيبتها الحداثة التي طغت على حياتنا فبدلتها من حال إلى حال أسوأ.
___________________
(*) باحث في التاريخ الحديث.