تبقى بعض الذكريات عالقة في الذهن فترة طويلة، وتأتي مواقف لتحرك المشاعر، وتثير الشجون، وتستحضرها إلى الوجود، وكان ذلك ما جرى للمهندس د. سعد البراك عندما زار مدينة «طليطلة»؛ فانهارت الدموع من المآقي، وهاجت قريحته بقصيدة جميلة، فما حكايته؟
لنعرف الحكاية على لسان د. سعد البراك مع مدينة «طليطلة».
سافرتُ بالحافلة إلى مدينة «توليدو» أو «طليطلة» في إسبانيا، التي تبعد نحو 80 كم عن العاصمة مدريد، وعندما اقتربنا منها رأيناها على هيئة درة داخل تل حولها نهر، وكانت لها هيبة كبيرة بالرغم من صغر حجمها!
ظلت الحافلة تتجول بنا داخل المدينة من الساعة الثانية عشرة ظهراً إلى السابعة مساء، استحضرنا خلالها 800 عام من الحكم العربي الإسلامي للأندلس، حيث كانت البصمات واضحة، واستمتعنا كثيراً بشرح المرشد السياحي عن هندسة المدينة، وخصوصاً الهندسة المعمارية، فهي إحدى العجائب! وشرح لنا كيفية تنظيف المدينة تلقائياً عبر ينابيع تنزل الماء من خلال قنوات مائية، وصممت الشوارع لتوضع المخلفات على جوانب الطرق، وبالتالي تقوم القنوات المائية بدفع المخلفات تلقائياً، وتنظيفها بكل سهولة!
وتحدث المرشد عن كيفية إنارة الشوارع ليلاً، وعن المكتبات الإسلامية، وعن نظام التهوية الذي يتعامل مع التيارات الهوائية على مدار العام، ورأينا نظام الحدائق وحُسن ترتيبها، فكانت هندسة المدينة نظاماً حضارياً فائق التقدم.
وعندما دخلنا إلى الكنائس، وجدنا الآيات القرآنية ما زالت موجودة على أسقف وجدران الكنائس، التي كانت في يوم من الأيام مساجد، وتم الاحتفاظ بتلك الآيات والزخرفة الإسلامية في تلك الكنائس بعد سقوط الأندلس، للحفاظ على الناحية الجمالية والفنية في تلك الخطوط.
وفي نهاية الرحلة، هزتني مقولة الدليل الإسباني، حينما قال للسائحين (وكانوا يهوداً أمريكيين): «هذا هو التاريخ العربي الإسلامي الحقيقي في إسبانيا، وليس التاريخ الذي يتم تدريسه لأبنائكم في المدارس».
وعند خروجنا من المدينة، شاهدنا كيفية إنارتها بعد الغروب، وكان هذا المنظر الأخير الذي أراه في المدينة، وطريقة الإنارة أمر يعجز اللسان والبيان عن وصف روعته وجماله!
تأثرتُ بهذه الرحلة كثيراً، فكانت هذه القصيدة التي سردتها:
تسألني طليطلة يا من
دنا ومن قلبي اقترب
أين الجدود قد مضوا
وأين المسلمون والعرب؟
وأين العز والمجد والدين
والتاريخ وكل من ذهب؟
كيف تركتم في العراء
درة نهباً لمن هبّ ودبّ؟
يتيمة يدوسها الفرنج أسيرة
لا تقوى على الهرب
فقلت: حسبك يا طليطلة
لا ترهقيني بالسؤال ولا تلحّي بالطلب
لا تنكئي جراح قلبي
لا تشعلي نار الغضب
ما جئت إلا سائحاً يريد
أن ينسى الهموم والتعب
لا تسألي عن أمتي فحالها
أعجب من كل العجب!
نساؤها تلهو ضياعاً
حكامها لعب رجالها لمن غلب
لا تسأليني طليطلة عن العرب
فليس بي من العرب إلا النسب
سلي غرناطة وقرطبة والقدس
فكلهم ضاع ومن كؤوس الذل قد شرب
فهذه الأرض لله يورثها
عباداً صالحين وهكذا كتب
من يستقم على الدرب وصان
عهده وما على أعقابه انقلب
وينزع الملك سبحانه ممن يشاء
لأنه ابتداء للملك قد وهب
كفى طليطلة وحسبك ملامة
فالهم في قلبي لهب
قد جئتك والقلب يطفو على أحزانه
كما يطفو على الماء الحطب
ذريني يا حبيبتي أستلقي في أحضانك
ثم امسحي الدمع من الهدب
وانشدي يا واحة التاريخ ألحان مجد
أمتي كي أرقص من الطرب
يكفيني يا طليطلة أنني
أحبك حب الوفاء قد وجب
ويوم نلقى الله يا حبيبتي
سيحشر المرء ومن أحب
_____________________
(*) مقتبسة من مقابلة تلفزيونية مع د. سعد البراك.