قلما تلبس الأفكار ثوبًا قشيبًا من الأدب، وقلما يجتمع عمق الفكرة وجزالة الأسلوب في كاتب واحد.. ومن هذا القليل –الذي اجتمع له هذا- المفكر الراحل د. زكي نجيب محمود.
استطاع زكي نجيب محمود أن ينقل للقارئ العربي أعقد المسائل الفلسفية والرؤى الفكرية بأسلوب أدبي سهل ورشيق ورصين، وتغيرت أفكاره خلال عمره الممتد بين عامي 1905 و1993، ومع تغير أفكاره ظل بعض الباحثين يطلقون عليه حكماً عاماً وقوفاً على قراءات مجتزأة لبعض أفكارٍ قام هو بتغييرها لاحقاً.
أوروبا طريقًا
بدأت رؤيته الفكرية لنهضة مصر متأثرة بالمناخ الثقافي العام في مصر في النصف الأول من القرن العشرين؛ فكان يرى أن طريق نهوض مصر يرتكز على اتباعها النهج الذي سلكته أوروبا، واختار إطاراً لخَطِّه الفكري يرتكز على الفلسفة الوضعية المنطقية، التي نشأت في الغرب بغية التخلص من هيمنة الفكر اللاهوتي الميتافيزيقي على العلوم، والانتصار لمبدأ سيادة العلم التجريبي الذي كان سبباً في نهضة أوروبا، وبدأ مشواره الفكري منادياً –بتطرف- إلى تقليد الغرب سبيلاً للنهوض.
يقول في كتابه “تجديد الفكر العربي” الذي كتبه بداية السبعينات: “فيما مضى كانت إجابتي عن سبيل التقدم تتلخص في أنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً، وعشنا مع مَن يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر للإنسان والعالم … وربما كان دافعي الخبيء لذلك هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً، والناس أعداء ما جهلوا” (ص ١٣).
نقلة فكرية
ومرَّ خلال مسيرته الفكرية بعدة مراحل تحدث هو عنها بنفسه في كتابيه “قصة عقل” و”حصاد السنين”، وما يعنيني الوقوف عنده هو النقلة الفكرية التي بدأها بعد تجاوزه الستين من عمره، وذهابه للعمل أستاذاً للفلسفة بجامعة دولة الكويت، وهي الفترة التي يقول إنه وضع لنفسه خطة لدراسة متأنية متأملة في التراث العربي استمرت خمس سنوات، وقد كان لهذه الدراسة أثرها في خطه الفكري، وعبر عن ذلك في أماكن متفرقة من كتبه المنشورة بدءاً من عقد السبعينيات، ومنها ما ذكره في مقال تحت عنوان مُلهِم ومُعَبِر “قلم يتوب” في كتابه “أفكار ومواقف”: “لقد تمنيت لأمتي فيما سبق أن تكون قطعة من الغرب، ولكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي”.
وبدأ خطاً فكرياً جديداً يجمع بين ما كان يعتقده مع ما استفاده من دراسة التراث، وبعبارته هو: “صيغة ثقافية تتضفر من خيطين معاً: الجانب الذي استبقيناه من ثقافة أصيلة زُرِعَت في أرضنا العربية وأثمرت، وبين خيط يتصل بالعلوم وقواعدها ومنهجها”.
ولكن ظلت إشكاليته: ماذا نأخذ من التراث؟ وماذا ندع؟
وهذه ليست إشكاليته وحده، ولكن إشكالية مَن سبقه ومن عاصره ومن تلاه، ولن تكون محل اتفاق، وستتفاوت فيها الآراء، وتظل مجالاً للاشتباك بين المفكرين.
رؤية نقدية
وقد وقع وهو يتلمس طريقه الجديد في عدة تناقضات -من وجهة نظري- أبرزها أنه رغم نقده لرواد الفكر المعاصرين له بسبب إهمالهم الحديث عن قضية فلسطين بصفتها قضية العرب الأولى، وهذا الإهمال اكتشفه أثناء زيارته للقدس في الثلاثينات وكتبه في مقال له بعنوان “فرار إلى مدينة الأحلام” في كتابه “حصاد السنين”، وبرغم نقده لإهمال القضية، لم نجد له في إنتاجه الفكري أي مساهمة تُذكَر في هذه القضية.
وأجده أحيانا يستخدم عبارات ملتَبِسة مثل ما كتبه في مقدمته لكتاب “قصة عقل”، الذي كتبه عام 1982: “أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا بالعلم حتى ولوجاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا دون أن يضيع منا العيش في عصرنا..”.
فهو هنا يخلط بين العلم والوجدان، في حين أنه في مواضع أخرى يضع حدوداً فاصلة بين مجالي العقل والوجدان، وقضاياهما التي ينبغي أن تدخل في نطاقين مختلفين.
ويخلط هنا أيضاً بين الحضارة والثقافة على ما بينهما من فوارق، في حين تجده في أماكن أخرى يضع خطوطًا فاصلة بين المعنيين؛ ففي كتابه حصاد السنين “يشبه الحضارة بجسم الإنسان والثقافة بروحه” (ص 180)، فالحضارة مادة، والثقافة روح، فالثقافة أصالة، والحضارة معاصَرَة.
مع الغزالي والشعراوي
واستمرت مسيرته بعد عودته لمصر، وانضم لأسرة كُتَّاب جريدة الأهرام، وفي هذه الفترة اشتبك فكرياً مع علمين من أعلام الدعوة الإسلامية وهما الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد متولي الشعراوي، وشهدتُ بنفسي وأنا شاب كيف كان تأثير هذا الاشتباك على صرف كثير من شباب الصحوة الإسلامية عن الاستفادة من الإنتاج الفكري لزكي نجيب محمود، وما زال هذا التأثير قائماً إلى اليوم.
وأرى أن من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس في الحكم على المفكرين إصدار حُكْم على الإنتاج الفكري لمفكر دون الإحاطة بمجمل إنتاجه الفكري، والوقوف عند عبارة له في بعض ما كتبه في بداية إنتاجه الفكري، والذي قد يتغير تماما في نهاياته. وقد يكون هذا الخطأ ناتجا عن التأثر بكلام ورأي مَن يميلون لفكره دون بذل الجهد في التحقق بذواتهم، أو الوقوف على ظاهر الألفاظ دون البحث في المقصود منها، بالإضافة إلى أن بعض الناس يتخيل أن المفكر لا بد أن تنطبق كل أفكاره مع ما يفكرون هم فيه!
وفي الختام:
حسب المفكر الراحل “زكي نجيب محمود” أنه أخلص لرسالته، ولم يبِع قلمه، وأنه اهتدى في الثلث الأخير من حياته الفكرية إلى أن يخطَّ طريقاً بين الأخذ بالعلم وأسبابه والمحافظة على أصالة إسلامنا وعروبتنا، أو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وحسبه أنه امتلك جرأة المراجعة، وشجاعة الاعتذار والتصحيح، فضلاً عن إثرائه المكتبة العربية بإنتاج فكري ثري، حفظ له مكاناً بارزاً بين كُتَّاب العربية المُجِيدين.