عرفته على مدى 55 عاماً (سنة 1965م) منذ أن عملنا في: شؤون النفط ( والتي صارت بعد ذلك وزارة النفط قبل أن تكون وزارة المالية والنفط )، وكنت لصيقاً به حوالي 40 سنة (من 1965 – 1986، ثم من 2001 – 2016م) كان يعمل مهندساً كيميائياً، وكنت وقتها أعمل رساماً جيولوجياً، وفي سنة 1969م أسس مع بعض إخوانه الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية (IIFSO)، فكانت هذه أول مؤسسة عالمية تجمع الاتحادات الطلابية في جميع أنحاء العالم، فانشغل بهذا العمل الفريد يجمع الناس ويؤلف الاتحادات الطلابية على المنهج الرباني، واختارني لمساعدته في هذا العمل العظيم متطوعاً، وبعد سنوات قليلة أخذ قراره بالاستقالة من العمل في وزارة النفط وسألني إذا احتجنا لك متفرغاً فهل تستقيل من النفط فأجبته بالموافقة فرحاً، وقد كان.
وكان العمل قد انطلق قبل سنوات من مكتب صغير: يؤلف الكتب، إلى جانب كتب أخرى تختارها لجنة من الاتحاد، ونطبعها ثم نوزعها في جميع أنحاء العالم، ثم ندفعها للمترجمين ثم نطبعها ونوزعها، وهكذا، إلى أن وصل عدد الكتب إلى سبعون كتاباً، وعدد اللغات إلى 100 لغة.
وقد كان لدعم العم عبدالله المطوع (أبو بدر) يرحمه الله، المادي والمعنوي الأثر الكبير في تطور العمل بشكل سريع، حتى وصلنا إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي.
ثم تم تأسيس اتحاد المنظمات الطلابية (SOU) سنة 1989م، فكان أمينه العام إلى آخر وقت.
وأخذ يجوب العالم شرقاً وغرباً، يؤلف الرجال على المنهج الرباني بعد أن ألف الكتب، وأصبح المسلم في جنوب شرق آسيا يقرأ نفس الكتاب الذي يقرأه المسلم في أفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية، كان هدفه توحيد المفاهيم على المنهج الرباني.
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، كنت أشعر دائماً أنه ذلك الرجل، كانت فراسته في الرجال لا تخيب.
على مدى عملنا الممتد كأعمارنا لم أسمع منه كلمة جارحة أو توبيخاً أو لماذا فعلت كذا أو لم تفعل كذا.
كان لا يرد صاحب مسألة يستطيعها، أو حتى لا يستطيعها، فغالباً ما كانت تنجح وساطته.
عرف من الرجال الكثير، الصغير والكبير، القريب والبعيد، الفقير والغني، الموظف الصغير والمدير والوزير ورئيس الوزراء والرئيس، منهم: الرئيس أردوغان، والرئيس ضياء الحق، والرئيس أربكان، والرئيس مرسي، والرئيس علي عزت بيجوفتش، والرئيس ياسر عرفات، والرئيس سوار الذهب، والرئيس إسماعيل هنية، ورؤساء مجالس النواب: في إندونيسيا (لا أذكر اسمه)، في مصر (سعد الكتاتني)، في ماليزيا (لا أذكر اسمه)، وغيرهم كثير.
ومن قادة العمل الإسلامي: عمر التلمساني، ومصطفى مشهور، ومحمد مهدي عاكف، ومحمد بديع (من مصر)، والقاضي حسين (باكستان)، ومحفوظ النحناح، ومحمد بو سليمان (الجزائر)، وعبدالله العلي المطوع (الكويت)، وعبد الرحمن خليفة (الأردن).. وغيرهم كثير.
لقد كان مفكراً وقائداً ومؤلفاً للقلوب وداعياً للوحدة ومنفراً من الانقسام والعصبية ومشجعاً للعمل المنظم ومشجعا لتأسيس المشاريع والعمل المؤسسي.
كان يمشي في قضاء حوائج الناس، كان سباقاً في زيارة المرضى وحضور الجنائز ومشاركة الناس في أفراحهم وأحزانهم.
هكذا كان.. مع الحق أينما كان..
في كتابه “لقاءات ومواقف مع شخصيات إسلامية عايشتها” (ص 21) تحدث عن فضيلة المفتي أمين الحسيني فقال: “المرحلة السياسية التي عاشها الحاج أمين وأمثاله من السياسيين كانت فترة صعبة وقلقة، اختلطت فيها الأمور، وتشابكت المصالح واختلفت التحالفات، فالمنطقة العربية تنقض على الخلافة العثمانية بزعامة الشريف حسين أمير مكة بتحريض وتأييد من بريطانيا، وفجأة يصبح المسلم الذي كان يصوب بندقيته ضد بريطانيا العدو اللدود للمسلمين، إذا به ينقلها إلى الجهة المعاكسة ويصوبها ضد نفسه وإخوانه العثمانيين.
وعندما انتهت المعركة وأعلن الجنرال الّلنبي الذي كان قائداً للحلفاء في مصر أن الحروب الصليبية التي كانت تهدف باستمرار للسيطرة على القدس قد انتهت اليوم، فها هو يدخلها ظافراً منتصراً، وإذا كان أسلافه قد دخلوها تخوض خيولهم للركب بدماء المسلمين، فاليوم يدخلها هو وسط هتافات المسلمين ونشوتهم بالنصر.
وعندما قال اللنبي قولته هذه، بدأت الشخصيات العربية والزعامات الدينية تنسحب من مهرجان الاحتفال، ولعلها أدركت حجم الجريمة التي ارتكبتها”.
في نفس الكتاب (ص211 ) تحدث عن الدكتور أحمد الملط فقال: “وفي المرة الثانية والثالثة لقيته في الكويت مرة عندما زارنا مع إخوة آخرين لمعالجة إشكال وقع في صفوف الإخوان، فالأمر بالنسبة لي ليس مجرد عمل تنظيمي بقدر ما كنت أعتبره ديناً أدين الله عليه، فالمسلمون أمة واحدة، ولا يمكن أن تفرقهم جنسيات، فجنسية المسلم عقيدته، ولا يمكن أن تلونهم أرض بلونها أو لغة يتحدثون بها.
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران).
كان لي حوار معه حول هذا الموضوع، وكان حاسماً لا يساوم، جريئاً لا يتردد، عقائدياً لا يتراجع، وعندما استمع إلى رأينا أقره وانشرح صدره له”.
في نفس الكتاب (ص 173) تحدث عن الأستاذ مصطفى مشهور فقال: “وعندما تسلم الأستاذ مصطفى مشهور منصب المرشد العام، تابع الهدف الذي رسمته الجماعة، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات كبيرة.
ولقد غدت الجماعة في عهده المعارضة الأولى في البرلمان المصري، وحققت صموداً عجيباً، بل وحققت معجزة الانتصار على محاولات الإفناء والتغييب، ولم تكتف الحركة بالمحافظة على بقائها في ظروف صعبة تمثلت في عداء نشط من قبل الأجهزة الأمنية والدولة، ومن المناخ العالمي، بل تفوقت كذلك على كل منافسيها، بحيث أصبحت الحركة السياسية الأولى في البلاد.
والذي يطالع الرسالة التي بعث بها الأستاذ مصطفى مشهور إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن، بعيد انتخابه، يعرف أي رجل كان هذا الشيخ.
لقد اتسم عهده بالعقلانية المفرطة في ابتعاده عن أي صدام مع الدولة، مهما بلغت تجاوزات الحكومة والأجهزة الأمنية، كان دائماً يرفض الاستدراج إلى المواجهة الشاملة، وعده بعض المفكرين السياسيين، أفضل عهود الحركة، فلم يعد الإخوان حركة هامشية على الساحة السياسية.
إنه سياسي محنك، وداعية حكيم يضبط نفسه ونفوس إخوانه، مع أنه كان في خط المواجهة الأول، منافحاً عن مبادئه وجماعته بالقلم واللسان”.
يقول مصطفى الطحان يرحمه الله: يوم كتبت كتابي “فلسطين والمؤامرة الكبرى”، كتبت فيه فصلاً عن فرسان “فتح”، فلم يقبل الإسلاميون مني ذلك، وقاطعوا الكتاب.
ويوم وافق ياسر عرفات وعلى مسؤوليته إعطاء الإخوان ثلاثة قواعد في غور الأردن تحت يافطة “فتح”، ينطلقون منها لمواجهة العدو، وقف الإسلاميون الفلسطينيون منّا نحن الذين تحمسنا لهذا المشروع موقفا شديداً، حتى التحية لم يكونوا يجودون بها علينا.
لم أكن من هذا الصنف، بل كنت أقابل عرفات، وأحاوره في بعض الأمور الخاصة بفلسطين، ففلسطين في نظري هي أخطر قضية في تاريخ المسلمين، هي عهد عمر، وعظمة صلاح الدين، واستعداد عبدالحميد أن يتنازل عن حكمه ولا يتنازل عن فلسطين، أنا من هذا الفريق الذي شمخت بأنفي زهوا يوم انطلقت العاصفة، وترحمت كثيراً على البطل يوم استشهد بالسم اليهودي، ويومها قال الجميع: أين أنت يا عرفات؟ وكما قبّل عرفات رأس الشيخ أحمد ياسين يوم خرج من السجن، فإني أطالب الأحياء المجاهدين، أن يعيدوا النظر في موقفهم من عرفات يرحمه الله.
في كتابه “الحركة الإسلامية في اليمن” قال: “والدرس الثاني الذي ينبغي أن نتعلمه من أحداث اليمن هو أن الانقلابات شر كلها وهي ليست الأسلوب المناسب للتغيير، وسيلة اخترعها الأمريكيون لخدمة مصالحهم(1)، وعليه فكل الانقلابات التي شاركت فيها الحركة الإسلامية سواء في مصر عام 1952م، أو في اليمن عام 1948م، هي محاولات فاشلة ارتدت على أصحابها، وبالمناسبة فقد دفعت الحركة الإسلامية في هذين الانقلابين ثمناً باهظاً من مسيرتها ومن دماء أبنائها”.
___________
الهامش
(1) يراجع في ذلك كتاب مايلز كوبلند، رجل المخابرات الأمريكية، “لعبة الأمم”.