المتأمل في سياسات بعض دول العالم اليوم، يلاحظ أنها قد تعبر بشكل من الأشكال عن الزاد الديني الموروث، بصرف النظر عن ديانات شعوبها، وعلى النقيض؛ قد تجد دولاً ليس لها دين رسمي، ولكنها في الوقت نفسه تعادي ديناً آخر حتى ولو كان هذا الدين يعتقده نسبة من مواطنيها.
وتستعجب من دول تتبنى ديناً في دستورها وهي تعادي من يريد لهذا الدين أن يحكم، وكأن الدين الرسمي لا يعني شيئاً من قريب أو بعيد لمن يعيش في هذه الدول! وتجد دولاً لا دينية في دساتيرها، ولكنها تعادي أدياناً أخرى يعتنقها سكانها، ويعاني الأفراد من ديانات مختلفة في أنحاء العالم من الاضطهاد والتضييق والتقييد لحرية الدين حتى من أكثر الدول التي تدعي أنها دول دينية!
لدراسة هذه الظواهر العالمية، سنلقي الضوء عليها من خلال مراجع ودراسات، لعلنا ندرك ما يحدث في العالم من تشابكات واختلافات تنبئ إما بحرب عالمية ثالثة -لا قدر الله- إذا أمسك بدفة الدول المتعصبون، أو نرى انفتاحاً وسعة أفق تقرب الناس للتعايش السلمي إذا قاد العقلاء.
كشفت دراسة جديدة لمركز «بيو» للأبحاث في واشنطن(1)، أجريت على 199 دولة، أن 43 منها تتبنى ديانة أو مذهباً دينياً معيناً، وأن أكثر من 80 دولة حول العالم لديها دين رسمي في دساتيرها أو تفضل ديناً معيناً، وأن أكثر من 100 دولة ليس لها دين رسمي، وأشارت الدراسة إلى أن الإسلام هو أكثر الديانات التي تتبناها دول رسمياً في العالم، ولفتت إلى وجود 10 دول تكِنُّ العداء بشكل رسمي أو غير رسمي للدين.
وحسب هذه الدراسة، قال الباحثون: إن الدول التي تتبنى ديناً معيناً تمنح معتنقي هذا الدين مزايا تفضيلية، وكذلك الدول التي لا تتبنى رسمياً ديانة معينة لكنها تفضل ديناً أو عقيدة معينة، فإنها تمنح أصحابها مزايا مالية أو قانونية معينة، ورغم أن الأخيرة لا تذكر الدين في قوانينها، فإنها تتحدث عن «التقاليد الدينية» للدولة، وبالنسبة للفئة الأولى، قال «بيو»: إنها قد لا تجعل الالتزام بدين معين أمراً إلزامياً، لكنها تفضّل أصحاب الدين الرسمي على معتنقي الأديان الأخرى، وذكر «بيو» فئة أخرى من الدول قال: إنها لا تفضّل أو تتبنى ديناً معيناً، وتحاول تجنب تفضيل أي مجموعات دينية.
الدول التي لديها دين رسمي:
22% من دول العالم يوجد لديها دين رسمي (43 دولة)، 63% من هذه الدول (27 دولة) تتبنى الإسلام بشكل عام أو مذهباً إسلامياً معيناً، 59% من الدول التي تتبنى الإسلام رسمياً (16 دولة من بين الدول الـ27) تقع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهناك 13 دولة في فئة الدول التي لديها دين رسمي تتبنى المسيحية، من بينها 9 دول في أوروبا؛ مثل بريطانيا والدنمارك وآيسلندا، وهناك دولتان هما بوتان وكمبوديا تعتبر البوذية دينهما الرسمي، أما الدولة الوحيدة التي جعلت اليهودية ديناً رسمياً لها فهي «إسرائيل».
دول تفضل ديناً معيناً:
توجد 40 دولة (20%) حول العالم تفضّل ديناً معيناً وإن كانت لا تتبناه رسمياً؛ 3 دول من الدول التي تندرج في هذه الفئة تفضل الإسلام مثل تركيا وسورية، و28 دولة تفضل المسيحية، غالبيتها تقع في أوروبا وأمريكا الجنوبية، بينما هناك 4 دول تفضّل البوذية، من بينها دولة بورما (ميانمار)، وسريلانكا.
دول لا تفضّل ولا تتبنى ديانة رسمية:
توجد 106 دول في العالم (53%) -من بينها الولايات المتحدة- لا تتبنى ولا تفضل ديناً معيناً، وهناك دول تعادي الدين أو تقيده بشدة؛ وهي 10 دول تكنُّ عداء رسمياً أو بشكل غير رسمي للأديان أو تقيد بشدة المؤسسات الدينية، على رأسها الصين التي تضطهد سكانها المسلمين.
الدعم الحكومي للدين:
يقول التقرير: إن غالبية الدول التي تتبنى أو تفضّل ديناً معيناً تقدّم الدعم المالي للأنشطة التعليمية لهذا الدين وبناء دور العبادة الخاصة به، وهناك 8 من بين كل 10 دول لديها دين رسمي تمول أنشطته التعليمية، بينما توجّه نسبة 51% من الدول في هذه الفئة بعض مواردها لبناء دور العبادة، وتقل نسبة التمويل قليلاً لهذه الأغراض في الدول التي لا تتبنى ديناً رسمياً لكنها تفضّل ديناً معيناً.
دولة الاحتلال وضع خاص!
خلصت دراسة أخرى لمركز «بيو»(2)، أن «إسرائيل» من بين الدول العشرين الأكثر تقييداً لحرية الدين (اعتقاداً وممارسة) حول العالم، وبيّنت الدراسة أن «إسرائيل» تحتل المرتبة الخامسة في العالم بـ»العداء الاجتماعي على خلفية الأعراف الدينية»، كما حلت «إسرائيل» في المرتبة السادسة عالمياً في «التوترات والعنف بين الأديان المختلفة».
كما لفتت الدراسة اعتماد السياسيين «الإسرائيليين» على الخطاب الديني لاستمالة الجمهور، بالإضافة إلى ذلك، شددت على اعتماد السياسيين «الإسرائيليين على المعتقدات الدينية وسلطة الدين حتى في المسائل القانونية والقضائية، وأضاف التقرير أن «إسرائيل» التي تعرّف نفسها بأنها دولة يهودية، يسيطر فيها الحاخامات على جميع حالات الزواج والطلاق والجنائز وغيرها؛ ما يعني أن الدولة لا تعترف بكل هذه الإجراءات ما لا تتم وفق الشريعة اليهودية، وعلى يد رجال الدين اليهود، وهي لا تعترف كذلك بالزواج المختلط بين الأديان.
وتتبع المركز في تقريره تصاعد وتفاقم القيود المفروضة على ممارسة العقائد الدينية على مستوى العالم ككل، وفي دراسة شملت الأفراد المنتمين إلى أكبر ديانتين في العالم، أكد المسيحيون تعرضهم إلى مضايقات واعتداءات في 143 دولة، فيما قال المسلمون: إنهم كانوا ضحايا هذه الممارسات في 140 دولة، وقال اليهود: إنهم تعرضوا للمضايقات والهجمات من قبل 87 دولة.
وحسب البيانات التي خلص إليها المركز، تفرض 52 حكومة (بما فيها الروسية والصينية) قيوداً صارمة على الدين، وارتفع هذا العدد من 40 دولة خلال 10 سنوات، كما أشار التقرير إلى معاناة 56 دولة من أعمال عدائية لأسباب دينية خلال عام 2017م، وارتفع هذا العدد من 39 دولة عام 2007م، وهناك 10 دول على رأسها الصين وروسيا، ومن بينها مصر وسورية، تقوم بأعمال عدائية ضد المجموعات الدينية، وها هي الهند رغم أن دينها الرسمي ليس الهندوسية تقوم باضطهاد مسلمي كشمير.
وشهدت أوروبا أكبر زيادة في القيود التي فرضتها الحكومات على شعوبها خلال الأعوام العشرة التي امتدت إلى عام 2017م، حيث ارتفع عدد الدول التي تفرض قيوداً على اللباس الديني (بما في ذلك النقاب والبوركيني) من 5 إلى 20 دولة؛ مثل فرنسا وهولندا والنمسا وألمانيا وإسبانيا، ووافق الناخبون بمنطقتين في سويسرا على حظر ارتداء النقاب، وأيد الناخبون على مستوى البلاد فرض حظر على بناء مآذن جديدة، والناظر إلى هذه الدول يجد أنها دول لا دينية، والمفترض ألا تتعصب ضد دين، ومثّل ختان الصبيان مشكلة في أوروبا، واشتكت الجماعات الإسلامية واليهودية في ألمانيا وسلوفينيا من تدخل المسؤولين الحكوميين في تقاليدهم الدينية عبر محاولة تجريم الختان بحجج غير طبية.
وما يدمي القلب أن أكبر دولة إسلامية في العالم وآسيا؛ وهي إندونيسيا، وأكبر دولة أفريقية؛ وهي نيجيريا، وأكبر دولة إسلامية في أوروبا؛ وهي تركيا، كلها دول دساتيرها علمانية، ولكن يأتي بريق الأمل من النجاح الباهر لحزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا.
وفي الدراسة العالمية المستفيضة(3) عن أي الدول لديها دين رسمي؟ تم تجميع الدين والدولة في قاعدة بيانات تصنف العلاقة بين الدين والدولة إلى 4 مجموعات رئيسة، هي: الفصل بين الدين والدولة، والتمييز ضد الأقليات الدينية، والقيود المفروضة على الأديان، ثم التشريعات الدينية، ويلاحظ من الدراسة أن هناك 3 دول تحولت من الإسلام إلى العلمانية بعد سقوط الخلافة؛ هي تركيا وألبانيا ولبنان، وتخلت سورية عن الإسلام كدين الدولة، وهناك 6 دول تحولت من دين آخر إلى العلمانية بعد انتهاء الاحتلال الأوروبي، هي: إندونيسيا من البروتستانتية (دين الهولنديين المستعمرين)، وغينيا بيساو من الكاثوليكية (دين البرتغاليين المستعمرين)، وكازاخستان من الأرثوذكسية (دين الروس المستعمرين)، وكل من بنين، وبوركينا فاسو، وتشاد من الأديان العرقية والقبلية، وكدين للدولة تركت كل من الصين والكوريتين وتايوان الكونفوشية، كما تركت البوذية كل من اليابان ومنغوليا.
إن البلاد المنتمية لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي دائماً تذكر أنها دول إسلامية، والمعروف أن عددها 57 دولة، ولكن هناك 27 دولة فقط دينها الرسمي الإسلام (47%)، والباقي هي 30 دولة سكانها مسلمون، أو نسبة كبيرة منهم مسلمون، ولكنها دول علمانية (53%)، ولعل ذلك أجاب لي ضمناً عن تساؤلي حول ضعف الأمة وبُعدها عن الإسلام، إذ نجح أعداؤها في الداخل والخارج أن يلبسوا ما يقارب نصف الأمة لباس «اللادينية».
____________________________________
الهوامش
(1) Many Countries Favor Specific Religions, Officially or Unofficially
Pew Research Centre
3 October 2017
(2) A Closer Look at How Religious Restrictions Have Risen Around the World
Pew Research Centre
15 July 2019
(3) Which countries have state religions
Barro and McCleary. Harvard University 2005
Quarterly Journal of Economics 120 (4): 1331-1370