– حمدي: نحن أمام مشهد حزبي يغلب عليه التشظي مقابل حزب منظّم هو «النهضة»
– الجورشي: الانتخابات وجهت ضربة قاصمة للإعلام بعد أن تصور نفسه عملاقاً يرفع أحزاباً ويضع أخرى
– بن مبارك: ما حصل عليه أنصار الثورة يفوق بكثير ما حصل عليه المتحفظون عليها
– الحوكي دعا إلى إيجاد كتلة برلمانية قوية تكون قادرة على حفظ التوازنات وتمرير مشاريع القوانين
رغم أن الحملة الانتخابية البرلمانية في تونس انطلقت في 14 سبتمبر الماضي، فإنها لم تعرف الزخم الذي عرفته المناسبات السابقة بعد الثورة 2011 و2014 و2018م.
ويؤكد محللون وخبراء تحدثوا لـ»المجتمع» أن ذلك يعود لعدة أسباب، من بينها الصراعات والتشتت الذي تشهده الساحة السياسية في تونس، كما أن توقيت الانتخابات تزامن مع العودة المدرسية، التي تمثل أولى أولويات الأسر التونسية.
كانت الأحزاب السياسية قد خاضت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بكل ما أوتيت من قوة، ثم حصل نوع من الفتور بعد ظهور النتائج التي لم تكن تنتظرها، وكل ذلك أثّر على الحملة الانتخابية البرلمانية من حيث الزخم الانتخابي والحضور في الشارع.
وأكد المحلل السياسي سمير حمدي، لـ»المجتمع»، أن الخارطة السياسية لم تعد كما كانت عام 2014م، حيث تم صنع حزب انتخابي، من أجل تحقيق التوزان مع حزب حركة النهضة، وحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية التي تمت آنذاك، ولكن ما إن انتهت الانتخابات حتى بدأ بالتفكك، وساهمت تلك التجربة في الحيلولة دون تكرارها في عام 2019م، لما تركته في حزازات وجدران بين أصحابها؛ وبالتالي نحن أمام مشهد حزبي يغلب عليه التشظي، مقابل حزب منظّم هو حزب حركة النهضة، التي لم ولن تتأثر بنتائج الانتخابات الرئاسية في الانتخابات التشريعية، بل إن جزءاً من خزانها الانتخابي الذي صوّت لقيس سعيد سيعود إليها يوم 6 أكتوبر في الانتخابات التشريعية.
ولم ينف حمدي وجود ميول انتخابية للقوى الجديدة التي طفت على الساحة، لكن من السابق لأوانه الحديث عن تحقيقها مفاجآت في الانتخابات، وهو ما تظهر عكسه عمليات سبر الآراء التي تجعل الأحزاب في المقدمة، وإن كان أحدها جديداً وطارئاً على الساحة الحزبية.
وأشار حمدي إلى أن الخارطة السياسية على أعتاب انتخابات 2019م تشير إلى تراجع الأحزاب المنبثقة عن نداء تونس، وظهور العديد من القوائم المستقلة التي تهدف لتحقيق نفس نتائج الانتخابات البلدية في مايو 2018م، مع اضمحلال اليسار والقوميين الذين يخوضون الانتخابات بقوائم مختلفة ومتنازعة، عكس ما كان عليه الوضع في عام 2014م، وحصولهم آنذاك على 15 مقعداً، وهو إنجاز مستبعد في عام 2019م؛ نظراً للنتائج الهزيلة التي حققها اليسار في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية.
رمال متحركة
ووصف المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي الساحة الانتخابية بالرمال المتحركة، وقال لـ»المجتمع»: الواقع لم يستقر بعد، وعملية الإحاطة بكل أثقاله سابقة لأوانها، وكل ما يقال في هذا الخصوص سابق لأوانه، لكن الحيرة حقيقة واقعة.
وتابع: هناك بعض المؤشرات التي يجب أن نسوقها قبل الخوض في موضوع الانتخابات التشريعية، التي تؤكد أولاً: وجود حالة إحباط لدى الناخب من مختلف التنظيمات السياسية بنسب مختلفة، ثانياً: انهيار المنظومة القديمة واضح وضوح الشمس، ثالثاً: القوى التي تخوض الانتخابات البرلمانية متعددة ومتنوعة، ويعتبر المستقلون ظاهرة في هذه الانتخابات كما حدث في الانتخابات البلدية.
لكن ما يغلب على الساحة هو الشقوق والتصدعات في كل مكان من السقف إلى الجدران، وظهور الشباب بشكل جلي في الانتخابات الرئاسية، وسيتواصل في «التشريعية»، وهو ما أدخل ديناميكية على المشهد السياسي ككل، وأردف: إذا نظرنا في هذه العوامل، فإننا ننتظر تشكلاً جديداً للمشهد الحزبي؛ حيث إن المشاركة هي الحل -كما بدا للشباب- بدل إلقاء القنابل الحارقة (استعارة) على السياسيين.
لكن اللافت أكثر للنظر -وفق الجورشي- هو خروج الإعلام من المعادلة، فالإعلام تصور نفسه عملاقاً يرفع أحزاباً ويضع أخرى، ولكن انتخابات 2019م وجهت ضربة قاصمة للإعلام، ورسالة مفادها أن دوره قد انتهى أو تقلص إلى أبعد حد، بشبكاته وعناصره، ومعلقيه، وهذا ما كشفت عنه الانتخابات الرئاسية، وهو ما ستلقيه من ظلال على الانتخابات البرلمانية.
وقال منسق جمعية دستورنا أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، لـ»المجتمع»: تعطينا النتائج الإجمالية للانتخابات أملاً يتأسس على ما حصل عليه المحسوبون على الثورة؛ فما حصل عليه أنصار الثورة يفوق بكثير ما حصل عليه المتحفظون على الثورة، أو من يناصبونها العداء، وأضاف: هذه فكرة مهمة للغاية؛ وهي أن الثورة ثقل سياسي وشعبي لا يستهان به، وأن ما حدث في عام 2011م لم يكن قوساً وأغلق، وإنما مسار وصراع لا تزال تخوضه الثورة سيلقي بظلاله على الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية دون شك، وعلى الانتخابات البرلمانية القادمة لا محالة.
وأشار إلى أن كل المترشحين الذين حققوا نتائج إيجابية في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها سيحققون نتائج مماثلة في «التشريعية»؛ فهي محرار تقاس به نوايا التصويت، وعمليات سبر الآراء تنحو هذا المنحى كما يعلم الجميع.
المشهد البرلماني
ويرى سمير حمدي أنه في حالة فوز قوائم مستقلة كثيرة في الانتخابات التشريعية، فإن سوق البيع والشراء سيفتح على مصراعيه، لمن يدفع أكثر، وسنشهد عمليات تحوّل وسياحة من حزب إلى حزب آخر، بشكل يفوق ما حصل في السابق على يد من أسس لهذه التجارة واكتوى منها في الوقت نفسه، وهو يدعو لوقفها بعد أن لحقه ضررها، وتابع: كل من ينتخب قوائم لا برامج لها ولا أفق سياسياً تتمتع به سيجد نفسه أمام مشهد سريالي قد يكون أكثر سريالية مما حدث حتى الآن، لا سيما أن الأرقام تشير إلى أن ما لا يقل عن 15% من أصوات النهضويين ذهبت إلى قيس سعيد.
وأعرب جوهر بن مبارك عن مخاوفه من إفراز الانتخابات التشريعية القادمة لبرلمان لا توجد به كتل برلمانية وازنة قد يعجز عن تشكيل حكومة، كما حدث في العراق ولبنان وسويسرا، واستمر ذلك في بعض هذه البلدان لأكثر من عام، وهي أسئلة كثيرة يجب البحث لها عن أجوبة من الآن، حتى لا نقع في أسوأ سيناريواتها في تونس، فإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه؛ فسنحصل على برلمان هجين لا يمكن للقوى الفائزة فيه أن تشكل حكومة، برلمان يقوم على الجدل العقيم، وعلى مصالح فئوية أو جهوية أو مالية زبونية، وهو ما يدعو الأحزاب الكبرى إلى أن تتدارك أمرها حتى تتمكن من قيادة البرلمان في السنوات الخمس القادمة، وفق برنامج واضح، والكرة في يد الناخب الذي يتم استقطابه.
بدوره، أعرب رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مهدي مبروك، لـ»المجتمع»، عن مخاوفه من أن يكون البرلمان القادم فسيفساء من الجمعيات والأحزاب، وقد لا تكون هناك كتل كبيرة وازنة تساهم في المصادقة على ميزانية الدولة والقوانين الضرورية، كما أن الميزانية القادمة سيصادق عليها البرلمان المنتخب، وبما أن هذه الانتخابات تشارك فيها قوائم مستقلة وجمعيات لا تمتلك رؤية ولا برامج؛ وبالتالي هناك مخاوف من عدم التجانس، ويكون البرلمان مشلولاً.
إلى ذلك، أشار المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي إلى أن نتائج الانتخابات البرلمانية ستؤكد مستوى الهبوط للأحزاب السياسية؛ فمن يريدون ورثة المنظومة السابقة غير قادرين على تحقيق مكاسب، بل عاجزين على الاحتفاظ بما لديهم الآن، ودعا الجورشي حزب حركة النهضة إلى النظر في أشياء كثيرة لم يسمها، لكنه أقر بوجود عمق شعبي ووزن انتخابي لحركة النهضة التي آثرت التوافقات والتحالفات على خزانها الانتخابي.
وذكّر الجورشي بأن المشهد الانتخابي أصبح بدون يسار، قائلاً: نحن في مرحلة لم يعد لنا فيها يسار، رغم أنه مثَّل جزءاً من الوعي العام.
في حين يرى أستاذ القانون الدستوري شاكر الحوكي أن الانتقال الديمقراطي يسير بقوة للتغيير والطموح في التغيير، وأن النظام البرلماني سيتعزز أكثر بعد سقوط مطالب تغييره، وبعد الصعوبات التي وجدتها الدولة العميقة والوضع الذي آل إليه السباق الرئاسي ومن ثم التشريعي، ودعا إلى إيجاد كتلة برلمانية قوية تكون قادرة على حفظ التوازنات وتمرير مشاريع القوانين، وقبل ذلك تشكيل الحكومة المقبلة، وإعطاء الفرصة لجميع الحساسيات بالوجود داخله.