بداية المقصود بالفن هنا الفن الهابط التخريبي الضلالي، أما الفن الهادف فنحن بحاجة ماسة إليه، وسيكون لنا حديث آخر فيه.. تطالعنا الأخبار -صحفياً أو إذاعياً أو تلفزيونياً– بين الفينة والأخرى بتوبة الفنان الفلاني، أو الفنانة الفلانية، من ممثلين وممثلات أو راقصين وراقصات، من الذين كانوا أعلاماً يشار لهم بالبنان، وتعقد عليهم الأنامل في هذا الشأن، وخصوصاً منهم أولئك الذين تميزوا بصورة ظاهرة بالفساد والتخريب، عن عمد وسابق إصرار، وهذا من خلال كلمات بعضهم، وهو يتحدث عن قصة توبته ووصوله إلى بر الهداية الربانية؛ فرأى النور بعد الظلام، ووقف على الجادة بعد تيه، وفتح صفحة بيضاء، بعد تلك الصفحات السوداء، التي انطبعت بها حياته السابقة.
وهذا الشرود والتيه عن طريق الحق، وترك منهج الصواب، المتمثل أصالة بكتاب الله تعالى، وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو نتيجة التلبيس الشيطاني، والعشعشة الإبليسية، التي عمل لها خفافيش الليل، وعتاة المكر، من أجل غزو هذه الأمة في الجانب السلوكي، الذي مبعثه الأصلي ما يعرف بـ«الغزو الفكري» أو الحرب الموجهة.
فكان الذي كان، ولا غرو في هذا؛ فالعلماء قالوا: التوبة واجبة من كل ذنب، وهذا من مستندات وأدلة الكتاب والسُّنة، من مثل قول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} (التحريم: 8).
وروى مسلم، في صحيحه، عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه».
وهذا الأمر الطيب المبارك -أمر المتابعة والمراجعة للنفس والذات مع الله تبارك وتعالى؛ بحيث إنه يحقق من خلال هذا عودة صادقة إلى الله عز وجل- محمدة وإيجابية عند الله تبارك وتعالى أولاً، وهذا هو المهم بالنسبة للإنسان المسلم، ثم عند الناس ثانياً، وهذه عاجل بشرى المؤمن.
ومن رحمة الله تبارك وتعالى بالناس أن فتح الله لهم باب التوبة، ما لم يغرغر هذا الإنسان، أو تطلع الشمس من مغربها، روى مسلم، في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
إلا أن هذه الظاهرة الطيبة تحفها سلبية جلية لمن يتابع؛ وهي أن هذا التائب أو تلك التائبة يتحولون بين عشية وضحاها إلى مفتين كبار، ومفسرين وشراح، ويتكلمون عن الإسلام في باب الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، حتى في أدق التفاصيل في باب الفتيا.
ترى أحدهم بالأمس كان غافلاً شارداً، واليوم بحكم التوبة يتصدر للإفتاء والتوجيه الإسلامي، وتفاصيل ربما يتحرج بعض العلماء في الحديث عنها، وهذا مما لا يجوز من الناحية الشرعية؛ لأن مسألة الفتوى والتوجيه الإسلامي لا بد أن يكونا من قبل المؤهلين لهذا المنصب، من علم بكتاب الله تعالى، وسُنة نبيه، والفقه، واللغة العربية، وما إلى ذلك من علوم.
لذلك فالذي يتكلم عن مسائل الحلال والحرام بغير هذه الأدوات، إنما هو متكلم بغير علم، وهذا لا يجوز، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} (النحل: 116).
وأحياناً تكون هذه الظاهرة نتيجة من نتائج الاستسهال في الحديث عن الإسلام؛ فجعلوا باب الفتوى لمن هبَّ ودبَّ، وصاروا يمارسون هذا الأمر بكل جرأة، بينما الأمر أكبر من هذا بكثير، وإن أمره لأمر خطر وجلل، ويحتاج إلى مطلعين وعلماء، وأهل اختصاص في علم الشريعة؛ «وأجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار».
المهم أنه كان من نواتج مثل هذا أمور مرفوضة من الناحية الشرعية، وانتشرت فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وأطلقت عبارات خطرة تمس جناب العقيدة في بعض الأحيان، كل هذا والناس يتابعون بشغف، ويتأثرون تأثراً كبيراً.
ومن هذه الفتاوى: «أن الأصل في كل شيء القلب، والقلب فقط، أما باقي الأمور فشكليات..»، وقل مثل هذا الكثير، في مسائل الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، وأحياناً يدخلون في تفاصيل تتعلق بصفات الله، وغير ذلك من مسائل الاعتقاد، فيكون الكلام فلسفياً بعيداً كل البعد عن منهج الإسلام الحق، في تقرير العقائد، وهذا خطأ ظاهر، وخلل كبير.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (1/8): «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك، بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، هو أعلى المراتب السنيات؛ فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟! فحقيق بمن أقيم في المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه».
وهنا لا بد من إثبات الملاحظتين الآتيتين:
1- إن هذا الحكم الذي ذكرناه لا ينطبق على الفنانين والفنانات، من التائبين والتائبات فحسب، وإن كان محور الحديث عنهم هنا، إلا أن نفس الحكم هذا تماماً بتمام -مع فروق يسيرة- يصدق على ظاهرة المفكرين، والأدباء والمثقفين والساسة، من التائبين والتائبات، عرباً كانوا أم عجماً.
ذلك أن قسماً منهم شعر -على ما يبدو– أنه من أول يوم أعلن فيه توبته، أخذ إجازة سريعة، يتكلم بها عن الإسلام بكل مفرداته، من خلال أرضيته الثقافية أو العلمية، التي يقف عليها أو يستند إليها، وربما تكون واسعة.
وهذا من العجلة، والأصل في هذا أن يتفرغوا فترة لأخذ العلم من مصادره ومراجعه وأهله؛ حتى لا تقع الفتنة بالتفسير الجاهل، والفتوى غير الصحيحة، ومن له اهتمام برصد هذه الظاهرة يدرك تماماً مخاطر مثل هذا العمل من خلال نواتجه الفكرية الخطرة.
فليس كل مثقف عالماً، ولا كل خطيب فقيهاً، والأمثلة على هذا الأمر كثيرة، ولا مجال في هذه العجالة للتفصيل فيها؛ لأننا هنا إنما نثبت الفكرة بعمومها، تحذيراً وتنبيهاً.
2- عندما نحذر من هذا الظاهرة -ظاهرة الإفتاء بغير علم، على أصوله المعروفة- لا نتهم النوايا بحال من الأحوال، لسببين:
الأول: لأنه لا يعلم ما في النوايا إلا الله عز وجل، وإنما لكل امرئ ما نوى.
الثاني: حسن الظن بالمسلم؛ لأننا نهينا -من الناحية الشرعية- عن سوء الظن بالمسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12).
ولكن هذا –أي حسن النية– ليس كافياً ليكون العمل صالحاً، ومعلوم أن العلماء سلفاً وخلفاً اتفقوا على أن العمل لا يكون صالحاً، إلا إذا توافر فيه شرطان؛ الأول: النية بأن يكون عمله هذا خالصاً لوجه الله تعالى، والثاني: أن يكون العمل موافقاً للكتاب والسُّنة؛ أي صوابية العمل، إنما تكون من خلال عرض هذا العمل على شرع الله تعالى، فإن وافقه قُبِل، وإلا رُد.
____________
(*) كاتب سوري.