كانت مفارقة كبيرة أن ترفض النخب التونسية مرشح التيار الإسلامي وحزب النهضة عبدالفتاح مورو، في انتخابات الرئاسة الأخيرة ليحل في المركز الثالث ويخرج، بينما اختار نفس الناخب الإسلاميين ممثلين في حزبي النهضة القريب من الإخوان في المركز الأول، والكرامة القريب من السلفيين في المركز الرابع.
وكانت مفارقة أكبر أن تسقط الرموز التقليدية والأحزاب القديمة في انتخابات الرئاسة والبرلمان، ليحل محلها شخصيات مغمورة مستقلة أو ليبرالية جديدة، وأحزاب جديدة تشكلت لأول مرة، بينما سقط الحزب الأول، حزب الرئيس الراحل السبسي بوفاته وحصل على 4 مقاعد بعدما كان له 86 مقعداً من 217!
صحيح أن الانتخابات أثبتت رسوخ الديمقراطية في تونس، بعد ثالث انتخابات تشريعية ورئاسية منذ “الربيع العربي”، وباتت التجربة مستقرة بعدما انحاز الجيش إلى الخيار الوطني؛ ما جعل الشعب يختار بحرية ويبدل اختياراته بين انتخابات وأخرى، ولكن تغير مزاج الشعب التونسي أصبح مثار تساؤلات.
هل عاقب التونسيون الأحزاب والشخصيات التقليدية في انتخابات الرئاسة، بانتخابهم شخصية مستقلة (سعيد) وأخرى ليبرالية جديدة (القروي)، كما فعل المصريون عقب “الربيع العربي”، حين اختاروا الرئيس محمد مرسي، ومنافسه العسكري أحمد شفيق، وخالفوا كل التوقعات التي كانت ترشح عمرو موسى، وعبدالمنعم أبو الفتوح؟ وهل فاز الإسلاميون حقاً في انتخابات برلمان تونس أم أنه فوز بطعم الهزيمة؟
الشعب التونسي فاجأ الجميع حين ابتعد عن اختيار الشخصيات الحزبية التقليدية في انتخابات الرئاسة، بمن فيهم مرشح النهضة، وقائد الجيش السابق، والأحزاب الكبرى، واختار شخصيات مستقلة مغمورة، وحين صفع أحزاباً كانت بالأمس حاكمة واختار أخرى.
وبرغم أن النهضة فعلياً خسر مقاعد وإن فاز بالمركز الأول، وسيكون من حقه تشكيل الحكومة ضمن ائتلاف، فقد أزعج تصدر النهضة الانتخابات التشريعية أوساطاً خليجية دعمت الثورات المضادة في العالم العربي.
الأكثر إزعاجاً أيضاً للغرب هو كيف تبخّر وتلاشى حزب “نداء تونس” العلماني الذي أسّسه الرئيس الراحل السبسي وحصل على دعم خليجي، وفقد كل مقاعده تقريباً في البرلمان، برغم فوز أحزاب علمانية وليبرالية أخرى.
“حسبة برما” في تشكيل الحكومة
لأن الأرقام التي حصل عليها حزب النهضة لا تمنحه أغلبية مريحة لمنحها الثقة في البرلمان (يحتاج لـ109 أصوات من 217 لتمرير أي حكومة) سوف يدخل التونسيون في “حسبة برما” من أجل تشكيل الحكومة المقبلة.
فقد فاز حزب النهضة بنسبة 19.5% من الأصوات (المقاعد)، يليه حزب “قلب تونس” لرجل الأعمال المسجون والمرشح الرئاسي القروي في المركز الثاني بـ14.5%، والتيار الديمقراطي بالمركز الثالث بـ6.5 %، وقائمة ائتلاف الكرامة (سلفيون) في المركز الرابع بـ6.4%، والحزب الدستوري بـ5.9%.
وبموجب هذه النتائج الأولية، حصل حزب النهضة الإسلامي على 52 مقعداً فقط، من أصل 217 نائباً في البرلمان، يليه حزب قلب تونس بـ38 مقعداً، تلته قائمة “التّيار الديمقراطي” بـ22، وائتلاف الكرامة السلفي بـ21 مقعداً، والحزب الدستوري 16 مقعداً، وحركة الشعب الليبرالي 15 مقعداً، وحزب تحيا تونس الليبرالي 14 مقعداً.
والمشكلة أنه رغم فوز حركة النهضة بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية، ما سيمنحها الحق في اختيار رئيس الحكومة وفريقه الوزاري وفق ما ينص عليه الدستور التونسي، فإنها ستكون في حاجة للحصول على تحالف قوي مع الأحزاب الأخرى.
ويزيد من أزمة حركة النهضة إعلان 4 أحزاب من بين الستة أحزاب الفائزة بالمراكز الأولى أنها لن تتحالف مع النهضة، وهي: حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وحزب “قلب تونس” والحزب الدستوري الحر، التي تستحوذ على 90 مقعداً من 217 هي مجموع المقاعد.
كما سيزيد من الأزمة سيطرة تيارات ليبرالية على البرلمان، بعضها يعادي الإسلاميين، وغياب التيارات اليسارية التي تلقت بدورها صفعة في الانتخابات.
حيث اعتبر حزب قلب تونس (صاحب المركز الثاني)، والحزب الحر الدستوري (صاحب المركز الخامس) أن التحالف مع النهضة خط أحمر، فيما أعلن التيار الديمقراطي الفائز بالمركز الثالث أنه سيكون في صفوف المعارضة ولن يتحالف مع الحزب الفائز، حاله كحال حركة الشعب صاحبة المركز السادس، التي أعلنت بدورها أنها لن تدخل في أي تحالف حكومي مع النهضة.
من سيشكل الحكومة؟
تنص المادة (89) من الدستور التونسي على: “يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان بتشكيل الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة”.
وتنص على أنه “في حال فشل الحكومة بنيل ثقة أغلبية أعضاء البرلمان يكلف الرئيس شخصية أخرى بتشكيل الحكومة بالتوافق مع القوى السياسية في البلاد وإذا مرت 4 أشهر على التكليف الأول”.
وحال “لم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه 45 يوماً وأقصاه 90 يوماً”.
معني هذا أنه سيكون أمام النهضة مشكلة كبيرة في كيفية تشكيل الحكومة وقد يظهر الجميع غلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة، حال فشلت النهضة في تشكيل حكومة مع أحزاب أخرى وهي تواجه قوى علمانية داخلية تعاديها وقوى خارجية داعمة للثورة المضادة.
ومع هذا يمكن للنهضة أن تصبح ذات وزن سياسي ثقيل لو تحالفت مع إسلاميي ائتلاف الكرامة (سلفيين) الذي يرأسه سيف الدين مخلوف، ومع المستقلين، وتتقرب من حزب التيار الديمقراطي لتصبح قادرة على تسيير مشاورات تشكيل الحكومة.
حيث أعلن ائتلاف الكرامة أنه لا مانع لديه في التحالف مع النهضة، ويتوقع مراقبون انضمام أحزاب أخرى للائتلاف البرلماني «الحاكم» على غرار حزب تحيا تونس وحزب البديل التونسي، وقد يشكل النواب المستقلون والنواب الفائزون عن قوائم ائتلافية طوق نجاة لحركة النهضة ويمنحوها ثقلاً برلمانياً قد يصل بها في نهاية المطاف لأغلبية الـ109 أصوات.
وتختلف نتائج الانتخابات البرلمانية للعام 2019 عن نتائج العام 2014م بفوز حزبين كبيرين بأغلبية الأصوات، حيث تصدر “نداء تونس” (ليبرالي)، بقيادة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بـ86 نائبًا، وتبعته حركة “النهضة” بـ69 نائبًا، ما يعني تقلص مقاعد النهضة رغم فوزها بالمركز الأول.
أهم نتائج ودلالات الانتخابات
يمكن رصد أبرز نتائج ودلالات انتخابات تونس فيما يلي:
تلقت القوى اليسارية هزيمة مدوية وصاعقة، بعدما كانت تمثل ثقلاً كبيراً، وكان يقودها زعيمان من كبار قياداتها هما محمد البراهمي، وشكري بلعيد اللذان قُتلا في عمليات اغتيال طالتهما منذ ست سنوات، وفشل اليسار في الحصول على أي مقعد في البرلمان الجديد.
أظهرت النتائج فوز كتلة “ائتلاف الكرامة” السلفي بحوالي 21 نائباً بقيادة سيف الدين مخلوف، المحامي الذي اشتهر بالدفاع عن المتهمين في قضايا الإرهاب، برغم أن مخلوفاً نفسه خسر في الدور الأول للانتخابات الرئاسية، وهو حزب يعادي الغرب وفرنسا ويضم بعضاً من الغاضبين والمنشقين من حزب النهضة الذين كانوا أكثر تشدداً.
وتأسس هذا الائتلاف في فبراير 2019م، ويجمع شخصيات سياسية ومستقلة عرفت بتشددها، ويهدف بحسب مؤسسيه إلى “جمع القوى الثورية في تونس لتحقيق أهداف الثورة التونسية التي لم تكتمل بعد”، وفق تعبيرهم.
النتائج التي حصدتها الأحزاب الكبرى كانت شبه متوقعة برأي كثير من المراقبين، غير أن نتائج تلك الأحزاب أتت أقل بكثير مما حققته في الانتخابات التشريعية الماضية، وأبرز الخاسرين حزب الرئيس الراحل السبسي وحزب النهضة.
حل حزب “قلب تونس”، الذي تأسس على عجل ويرأسه المرشح للانتخابات الرئاسية نبيل القروي، في المركز الثاني، وحصل على حوالي 38 مقعداً، وينافس القروي نفسه في الرئاسة ليكون “سبسي” جديداً.
المفاجأة الأكبر كانت الهزيمة المدوية لما كان يُسمى بالأحزاب الوسطية الحداثية، التي لم تتمكن مجتمعة من الحصول سوى على 4 مقاعد في البرلمان من أصل 217 مقعداً مثل حزب “نداء تونس”، الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي (4 مقاعد) وما تفرع عنه من أحزاب منشقة منه، مثل: حزب “مشروع تونس”، وحزب “بني وطني” (لم يفوزا بأي مقعد) ما يعكس حال هذه الأحزاب التي كانت في يوم من الأيام في صدارة المشهد السياسي.