يعنُّ لبعض الناس سؤال مهم، عن الشرور في هذا العالم: هل يخلق الله الشرَّ؟ وهل يليق بالرحمن الرحيم، البرّ الكريم، أن يخلق الشرَّ؟ ولماذا لم يكفنا الشرَّ ويرحمنا منه، وهو الغني الذي بيده كلُّ شيء؟
ولا مفر من الجواب المطلوب هنا، وهو أنَّ الله تعالى لا يخلق (الشرَّ)، أعني الشرَّ المطلق المقصود لذاته، بل هو مصدر الخير والنِّعم كلِّها، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34، والنحل:18].
وقد قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاة ربه: “الخير بيديك، والشرُّ ليس إليك”(1).
وكلُّ ما نراه من شرٍّ في هذا الكون إنما هو شرٌّ جزئيٌّ نسبيّ، في مقابل الخير الكلِّي المطلق العام، وهذا الشر من لوازم هذا الخير.
انظر إلى خلق الإنسان، فلا ريب أن خلق الإنسان في ذاته خير، وإعطاءه العقل والإرادة والقدرات التي تُؤهِّله للخلافة في الأرض خير، وتمييزه بالتكليف وحمل الأمانة- التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها- خير، وهدايته النجدين، وإلهام نفسه التقوى والفجور خير، وإرسال الرسل له، وإنزال الكتب، وقطع المعاذير بالنسبة له خير، وتحميله المسؤولية عن أعماله الظاهرة والباطنة خير، فإذا ترتَّب على هذا الخير أنه قد يكفر بربِّه، أو يكذِّب رسله، أو يُسيء في عمله، ليستحقَّ عقوبة ربِّه الذي لا يخاف أحد عنده ظلمًا ولا هضمًا، وإنما يجزي كلَّ نفس بما كسبت، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8]. فهذا شرٌّ جاء للإنسان، نتيجة لسوء عمله، وعدم استفادته من الخير الذي هيَّأه الله له، وأنعم به عليه.
ونجد أن الله تعالى أنزل لعباده الأمطار، وأجرى لهم الأنهار، وقد يسبب نزول الأمطار، وفيضان الأنهار، مصائب جزئية لبعض الناس، عندما يزيد الفيضان في بعض السنوات، ولكن في مقابل هذه الفئة المتضرِّرة، يستمتع الملايين بهذه الحياة، ويعتبرونها نعمة عظيمة من الله، وفي هذا يقول الناس: مصائب قوم عند قوم فوائد.
وقد يفعل الناس هذا بأنفسهم عامدين، موازنين بين مصالح وأخرى، كما أقامت مصر (السدَّ العالي) لتخزين المياه خلفه، حتى لا يضيع هدرًا في البحر الذي هو المصبُّ، وقد غرقت قرى كاملة وراء السد وخسرها أهلها، وعوَّضتهم الدولة، بالهجرة إلى أماكن أخرى بديلة عن قُراهم.
وقد كنتُ مرة في زيارة لمدينة عمَّان في الأردن، لإلقاء محاضرة في الجامعة، وحاصرني الثلج الذي نزل بقوَّة، وعطَّل ألوف السيَّارات في الطرق، ووقعنا في أزمة، وقد دخل علينا الليل، ونخشى أن يفرغ (البنزين) من السيارة، فتتعطَّل التدفئة، فنهلك من البرد، وبعد نحو ثماني ساعات أو أكثر، جاء الفرج، وتدخَّلت قوات الجيش والدفاع المدني والشرطة وغيرها، لإزاحة الثلج، وفتح الطرق للسيارات، وقلنا: الحمد لله على النجاة.
ولكنِّي في الصباح وجدتُ الناس يهنِّئ بعضهم بعضًا على هذا الثلج، الذي يطهِّر الأرض وينقِّيها من الحشرات الضارة بالزروع، ويزيد مخزون المياه في الأرض.. ورأيتُ الأولاد يلعبون بالثلج، ويكوِّنون منه أشكالًا يتقاذفون بها في بهجة وسرور، فما كنا نحسبه نقمة عند حبسنا، أصبح نعمة عند عامَّة المجتمع من حولنا.
لذا فإن المؤمن راضٍ عن نفسه، أعني عن وجوده ومكانه في الكون؛ لأنه يعلم أنه ليس ذرَّة ضائعة، ولا كمًّا مهملًا، ولا شيئًا تافهًا، بل هو قبس من نور الله، ونفخةٌ من رُوح الله، وخليفة في أرض الله.
المؤمن موقن تمام اليقين أنَّ تدبير الله له أفضل من تدبيره لنفسه، ورحمته تعالى به أعظم من رحمة أبويه به، ينظر في الأنفس والآفاق فيرى آثار برِّه تعالى ورحمته، فيناجي ربَّه: {بِيَدِكَ الخيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] فالخير بيديه، والشرُّ ليس إليه، وما يظنُّه الناس شرًّا في الوجود، ليس هو شرًّا في الحقيقة. وإذا كان لا بدَّ من تسميته شرًّا، فإنما هو شرٌّ جزئي خاصٌّ مغمور في جانب الخير الكلِّي العام، وهذا الشرُّ الجزئي، أو الشرُّ الموهوم اقتضاه التكافل بين أجزاء الوجود.
هذا التكافل الذي يقول فيه الأستاذ العقاد: ((إنَّ المعتقدين به- أي بهذا التكافل- يرون أن الشرَّ لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزءٌ مُتمِّم له، أو شرط لازم لتحقيقه، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدَّة، ولا معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلها وترجح عليها. وقد يطَّرد هذا القول في لذَّاتنا المحسوسة، كما يطَّرد في فضائلنا النفسيَّة، ومطالبنا العقليَّة، إذ نحن لا نعرف لذَّة الشِّبَع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالري ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح))(2).
هذا هو الكون، الكون متكافل بأجزائه جميعًا، ومن تصور كونًا لا شر فيه قط فهو واهم؛ هذا الشر من لوازم الخير، ولذلك القرآن يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. لم يقل: (بيدك الخير والشر) وإن كان كل شيء بيديه، ولكن الخير مقصود لذاته والشرُّ يأتي تبعًا.
الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء لا يقصد خلْق الشر، ولا يخلق شرًّا مطلقًا، إلا لأنه من لوازم الخير، فهو شر جزئي، وشر إضافي، وشر مغمور بالخير عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته.
الخير كله من الله، ولذلك يُستحبُّ للإنسان المؤمن إذا ناجى ربه ألا ينسب إليه الشر، ولذلك سيدنا إبراهيم حينما قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78-80] لم يقل: (والذي هو يُمرِضني ويشفين) أدبًا مع الله؛ كل شيء من الله، وكثيرا ما يأتي المرض باختيار الإنسان، بسوء صُنْع الإنسان، بعدم التزام الإنسان بما شرع الله.
إن آلام الحياة تقوِّي الإنسان يتعلم منها، أما الذين يُولَدون وفي أفواههم ملاعق من الذهب، ويعيشون وهم غرقى في الديباج والحرير وبحبوحة النعيم طوال حياتهم لا يتعلمون، إنما يتعلم الذين يعانون الآلام والمصاعب منذ صِغَرهم.
ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر:
ومن جميل ما يذكر هنا قول الإمام ابن تيمية: ((ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر في مفعولاته، كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50]. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. وقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12-14]. فبيَّن سبحانه أنَّ بطشه شديد، وأنه هو الغفور الرحيم …))(3).
ثم قال: ((والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة؛ فإن نفوس بني آدم لا يزال يتحرك فيها من هذه المسألة أمر عظيم.
وإذا علم العبد من حيث الجملة أنَّ لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: “لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها”(4). وفي الصحيحين عنه أنه قال: “إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة، واحتبس عنده تسعًا وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك، فرحم بها عباده”(5). أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم))(6).
الغزالي يسأل ويجيب
وقد تعرض حجة الإسلام أبو حامد الغزالي لهذا السؤال، وأجاب عنه فقال رحمه الله: ((لعلك تقول: ما معنى كونه تعالى رحيمًا، وكونه أرحم الراحمين؛ والرحيم لا يَرى مبتلًى ومضرورًا ومعذَّبًا ومريضًا، وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته، والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية، ودفع كل فقر وغُمَّة، وإماطة كل مرض، وإزالة كل ضرر، والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا، وهو قادر على إزالة جميعها، وتاركٌ عبادَه ممتَحنِين بالرزايا والمِحَن؟
(فجوابُك): أن الطفل الصغير قد ترِقُّ له أمه فتمنعه عن الحجامة، والأب العاقل يحمله عليها قهرًا، والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته، وأن الأم له عدو في صورة صديق، فإن الألم القليل إذا كان سببًا للَّذة الكثيرة، لم يكن شرًّا؛ بل كان خيرًا.
والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير، لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمنه، فاليد المتآكلة قطعُها شر في الظاهر، وفي ضمنه الخير الجزيل، وهو سلامة البدن، ولو تُرِكَ قطعُ اليد لحصل هلاك البدن، ولكان الشر أعظم.
وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير، ولكن المرادَ الأول السابق إلى نظر القاطع: السلامةُ التي هي خيرٌ محض، ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد، قصد قطع اليد لأجله، فكانت السلامة مطلوبةً لذاتها أولًا، والقطع مطلوبًا لغيره ثانيًا، لا لذاته، فهما داخلان تحت الإرادة، ولكن أحدهما مراد لذاته، والآخر مراد لغيره.
والمراد لذاته قبل المراد لغيره؛ ولأجله قال الله عز وجل: “سبقت رحمتي غضبي”(7). فغضبه إرادته للشر، والشر بإرادته، ورحمته إرادته للخير، والخير بإرادته. ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه، وأراد الشر لا لذاته، ولكن لما في ضمنه من الخير؛ فالخير مقضيٌّ بالذات، والشرُّ مقضيُّ بالعَرَض، وكلٌّ بقدرٍ، وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلًا.
فالآن؛ إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرًا، أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنًا لا في ضمن الشر، فاتَّهم عقلك القاصر في أحد الخاطرَيْن.
أما في قولك: إن هذا الشر لا خير تحته، فإن هذا مما تقصُر العقول عن معرفته، ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرًّا محضًا، أو مثل الغبي الذي يرى القتل قِصاصًا شرًّا محضًا؛ لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول؛ لأنه في حقه شر محضٌ، ويذهَلُ عن الخير العام الحاصل للناس كافة، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله.
أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني، وهو قولك: إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن، فإن هذا أيضًا دقيق غامض، فليس كل محال وممكن مما يُدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب؛ بل ربما عُرِف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون.
فاتَّهم عقلك في هذين الطرفَيْن، ولا تشُكَّنَّ أصلًا في أنه أرحم الراحمين، وفي أنه سبقت رحمته غضبه، ولا تَستَريبَنَّ في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحقٌّ لاسم الرحمة، وتحت هذا الغطاء سرٌّ مَنَع الشرع عن إفشائه، فاقنع بالإيماء، ولا تطمع في الإفشاء، ولقد نُبِّهْتَ بالرمز والإيماء، إن كنت من أهله، فتأمل. لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكن لا حياةَ لمن تنادي(8).
هذا حكم الأكثرين، وأما أنت أيها الأخ المقصود بالشرح، فلا أظنك إلا مستبصرًا بسِرِّ الله عز وجل في القَدَر، مستغنيًا عن هذه التحويمات والتنبيهات))(9).
* من كتاب «أسماء الله الحسنى» للدكتور القرضاوي.
(1) جزء من حديث رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (771)، وأحمد (803)، عن علي، ونصه: “… والخير كله في يديك والشر ليس إليك”.
(2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد صـ8، نشر نهضة مصر، القاهرة، ط4، 2005م.
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/96).
(4) متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (5999)، ومسلم في التوبة (2754)، عن عمر.
(5) متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6000)، ومسلم في التوبة (2752) بنحوه، عن أبي هريرة.
(6) مجموع الفتاوى (8/97).
(7) رواه البخاري.
(8) من شعر كُثَيِّر عزة في قصيدته في رثاء خندق الأسدي، انظر: معجم البلدان نشر دار صادر، بيروت، ط2، 1995م، وقد نُسب لعبد الرحمن بن الحكم في الأغاني (15/82)، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1415هـ.
(9) المقصد الأسنى صـ64-66.