ينبغي للمؤمن السالك الطريق إلى الله تعالى: أن يجتهد في إخفاء طاعاته، وستر أعماله الصالحات عن أعين الخلق وآذانهم ما استطاع، مكتفيا بأن الله تعالى يسمع ويرى، وأن الخلق لا يملكون له ضرا ولا نفعا، وأن رضوان الله تعالى ومثوبته فوق رضا الخلق وثنائهم.
وهذا بالنسبة إلى النوافل والتطوعات، أما الفرائض والأركان، فهذه يجب إظهارها، تعظيماً لشعائر الإسلام، وإبرازاً لقوة تمسك المسلمين به، ومنعاً للتهمة وإساءة الظن بالمسلم أن يظن به تضييع ما فرض الله عليه، وضربا للمثل حتى يقتدي به غيره، ويتشبه به الآخرون، فإن الخير يغري بالخير، والصلاح يدعو إلى الصلاح.
هذا هو الأصل في الفرائض: الإظهار والإعلان، أما الأصل في النوافل فهو الإخفاء والكتمان، ومع هذا يمكن أن تظهر نوافل الطاعات والصالحات من المسلم من غير قصد لإظهارها مراءاة للناس، وقد يفرح بذلك ويبتهج، فرح الإنسان بكل خير حققه لنفسه.
أ- وهو فرح محمود إذا كان شكرا لله تعالى على نعمة التوفيق للطاعة، وحسن لطفه سبحانه بإخفاء السيئات وإظهار الحسنات، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58). ومن أذكار الصالحين: سبحان من أظهر الجميل، وستر القبيح!
ب- وللتفاؤل بأن يفعل الله تعالى معه ذلك في الآخرة كما فعله في الدنيا، أي يستر مساوئه، ويظهر محاسنه، كما في القول المأثور: “ما ستر الله على عبده في الدنيا إلا وستر عليه في الآخرة”، وفي معناه قال الشاعر:
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقى!
فيكون الفرح الأول فرحا بالقبول في الحال، من غير ملاحظة للاستقبال، والفرح الثاني التفاتا إلى حال المآل، وحسن المنال.
جـ- وقد يكون فرحه بظهور الطاعة، لأنه سيكون حافزا لغيره، ليقتدي به، ويحذو حذوه، فيكثر الصالحون، ويزداد عدد المطيعين لله تعالى، ويتسع نطاق الخيرات، والأعمال الصالحات، فيتضاعف الأجر عند الله تعالى.
د- وقد يكون فرحه، لأن المطلعين على عمله سيحبونه في الله، ويرضون عنه، ويثنون عليه، وبهذا يثابون على ذلك، ويدخلون في أوثق عرا الإيمان، فقد جاء في الحديث: “أوثق عرا الإيمان: الحب في الله والبغض في الله”، وفي حديث أنس المتفق عليه: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله”… الحديث. ويعرف صدق هذه الدعوى ـ دعوى فرحه بإثابة الناس لحبهم له في الله، أو في فرحه باقتدائهم به في عمله ـ إذا استوى عنده مدحه ومدح غيره من الصالحين.
هــ- ومما يحمد لأجله إظهار العمل الصالح: ترغيب الآخرين فيه، وسن السنة الحسنة ليقتدى بها فيهتدى، وفي صحيح مسلم من حديث جرير بن عبدالله: “من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء”.
وقد أمر الأنبياء والرسل بالإظهار للطاعات، لأن الله تعالى جعلهم أسوة لأتباعهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ، ومثل الأنبياء: خلفاؤهم وورثتهم من العلماء والدعاة والصلحاء، من كل من يقتدى به، وقال الحسن: قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين، ولكن في الإظهار أيضا قد تكون الفائدة.
فلذا أثنى الله على السر والعلانية، فقال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ …) (البقرة: من الآية 271)، وقال: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقال علي رضي الله عنه: تصدقت بدرهم في ليل وآخر في النهار، وبدرهم سرا، وآخر علانية، عملا بالآية.
وبهذا يكون قد عبد الله في كل الأوقات، وعلى كل الأحوال، وإن كان الإسرار بالصدقة أفضل، وخصوصا إذا خشي على نفسه الرياء، والفتنة بمحمدة الناس، أو كان في الإسرار رعاية لحرمة الفقير، وحفظ لكرامته، لا سيما إن كان من المستورين المتعففين، الذين وصفهم القرآن بقوله: (…يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) (البقرة: من الآية 273) ، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن “السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” ذكر أحد الأصناف، وهو: “رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”.
وهذا هو المقام الأعلى، ولكن إذا أبدى الصدقة، أو أظهر العمل الصالح، لسبب من الأسباب التي ذكرناها من قبل، فلا حرج عليه، والواجب عليه أن يفتش عن دخيلة نفسه، ويحترس من خداعها، فإنها أمارة بالسوء، خداعة غرارة، وليحذر ما استطاع من الرياء، فربما كان هناك رياء في غاية الخفاء، يتسلل إليه، وهو لا يشعر، فيحبط عمله، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وهنا لابد له من الاستعانة بالله جل وعلا، والبراءة من الحول والقوة، واللجوء إلى حول الله سبحانه وقوته، ومن الدعاء المأثور: “اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه”.
كتمان الذنوب
وإذا كان الشرع قد جاء بالرخصة في إظهار الطاعات، وخصوصا الفرائض بل والنوافل في بعض الأحيان، لتحقيق أهداف ذكرناها، فإنه لم يشرع إظهار المعاصي والإعلان عنها، بل أمر بإخفائها إن وقعت، وكتمانها عن الغير ما استطاع، لا مراءاة للناس، ولا طلبا لثنائهم، وظهورا بصورة يحبونها، وإن كانت غير صورته الحقيقية.
بل إنما يحمد كتمان الذنوب، وكراهة إطلاع الناس على العيوب، لعدة أسباب:
أولاً: لأننا مأمورون أننا إذا ابتلينا بمعاصي الله أن نستتر بستره سبحانه، ولا نفضح أنفسنا، وفي الحديث: “اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله تعالى”؛ من أجل هذا يكره ظهور المعصية من غيره، كما يكرهها من نفسه، وفي الصحيح: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، ومفهومه: أن يكره له ما يكره لنفسه.
وثانيا: للتحامي عن هتك ستره، وظهور أمره، خوفا من سقوط وقع المعاصي من النفس، وجرأتها عليها، فإن النفس متى ألفت ظهور الذنوب، زاد انهماكها فيها، واسترسلت في شهواتها بارتكابها، ولم تبال باجتنابها، وهذا الخوف من هتك الستر في الدنيا يتبعه خوف من الهتك في الآخرة، وهو أشد وأخزى. ولهذا يقول الطيبون: اللهم كما سترت علينا في الدنيا، استر علينا في الآخرة، ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، يوم العرض عليك.
وثالثاً: لئلا يقلده غيره، فيكون سببا في انتشار معاصي الله في الأرض، وتجرئ الناس عليها، فحسبه أن يتورط هو في المعصية، ويسأل الله التوبة والمغفرة، ولكن لا يظهرها فتشيع وتتسع، فإنها تعدى كما يعدى الأجراب السليم، وتؤذي كما يؤذي نافخ الكير جاره، فإذا غرق هو، فهو يكره أن يغرق غيره معه؛ ولهذا ينبغي للعاصي أن يخفي معصيته حتى عن أقرب الناس إليه، مثل أهله وولده، وخادمه، حتى لا يتأسوا به.
ورابعاً: ليكون في مظنة العفو والمعافاة من الله تعالى، ولا يدخل في زمرة المتبجحين المجاهرين بالسوء، المتفاخرين بما ارتكبوا من موبقات، وما اصطنعوا من مغامرات، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح، وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه”.
وخامساً: ليكون من أهل الحياء، الذين يمنعهم حياؤهم وسلامة طبعهم من إظهار المعصية، وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء. فقال: “دعه، فإن الحياء من الإيمان”، وفيهما عن أبي هريرة: “الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان”، وفيهما عن عمران بن حصين: “الحياء لا يأتي إلا بخير”.
وسادساً: ليدخل في زمرة المشهود لهم من الأمة بالخير، والناس شهداء الله في الأرض، وكما قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في جنازة مرت فأثنوا عليها خيرا فقال: “وجبت”، وأخرى أثنوا عليها شرا” فقال: “وجبت”، فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: “هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض”، وقال عليه الصلاة والسلام: “ما من مسلم يموت يشهد له أهل أربعة أبيات من جيرانه الأدنين: إنهم لا يعلمون إلا خيرا، إلا قال الله: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون”.
وسابعاً: لئلا يتسبب في ذم الناس له، فيقعوا في المعصية بسبب هذا الذم، أو بتجاوزهم الحد، حتى يذم بما ليس فيه، أو بأكثر مما فعل، كما هو المعتاد في مثل هذه المواقف، وهو لا يحب أن يعصى الله تعالى بسببه، ويكفيه ما ابتلي به من معصية، وهو لهذا يتألم إذا ذم الناس غيره من العصاة كما يتألم لذم نفسه.
وثامناً: لئلا يتألم بذم الناس إذا اطلعوا على معصيته، فإن الذم مؤلم للقلب، وهذا أمر جبلي فطر عليه الإنسان، كما أن الضرب يؤلم الجوارح بالطبع، وربما صار هذا التألم ـ وخصوصا إذا استمر واشتد ـ مانعا من الخشوع في العبادة، بسبب الانفعال والتوتر الناشئ عن تألمه، ولا جناح على المسلم أن يبتعد ويهرب من كل ما يؤلم جسده أو قلبه، فليس هذا بحرام، وإن كان المقام الأعلى أن تزول عنه رؤية الخلق، فيستوي عنده ذامه ومادحه، لعلمه أن الأمر كله بيد الله تعالى، وأنه هو الضار النافع، وأن العباد كلهم مقهورون تحت سلطانه، روى الترمذي من حديث البراء بن عازب وحسنه: أن رجلا قام فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وإن ذمي شين! فقال عليه الصلاة والسلام “ذاك الله عز وجل”.
وتاسعاً: لخوفه أن يقصد بسوء أو أذى إذا ظهرت معصيته، وهذا أمر وراء الذم، فإن الذم مكروه من حيث يشعر القلب بنقصانه، وإن كان ممن يؤمن شره، وهنا يخاف شر من يطلع على ذنبه، ولا حرج على المسلم أن يجنب نفسه الأذى بتجنب أسبابه ما استطاع.
___________________________________
(*) من كتاب “النية والإخلاص”.