قلت: لصاحبي الرسول صلى الله عليه وسلم أُسوتنا. قال: لا ريب، فسألته: إذن لماذا نخالفه أحيانا ؟ قال لي صديقي: هات ما عندك ولا تطل علي. قلت: قد كان صلى الله عليه وسلم يحترم التخصص، ويوظف أصحابه رضي الله عنهم كل فيما يحسن. قال: كيف ذلك ؟ قلت: الأمثلة كثيرة، ففي الدعوة إلى الله بعث صلى الله عليه وسلم مصعبا رضي الله علنه إلى المدينة يغرس فيها شجرة الإسلام، ولم يبق بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام، “وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم “[1]،فنجح أيما نجاح، وذلك بما أوتي من حكمة، وبما امتلك من أدوات الداعية الصادق المخلص الحصيف.
ولملكات الصديق والفاروق في القيادة والإدارة استوزرهم النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يستشيرهم دوما، ويقول لهما:” لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا “[2]ولهذا خصهم أبوسفيان بالسؤال عقب هزيمة أحد دون باقي الصحابة رضي الله عنهم، ” قَالَ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ؟ ..: أَفِيكُمُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ …ثُمَّ قَالَ: أَفِيكُمُ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا فَلَمْ يُجِيبُوهُ قَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ..الخ “[3]، وهذا لعمري رجل يعرف أقدار الرجال وأوزانهم، لكن في المقابل تعالوا ننظر لرجل قال فيه صلى الله عليه وسلم:” مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أبي ذر”[4] فهل لهذه القدم الراسخة في الإيمان رسوخ مماثل يؤهلها للتصدر في مجال الإدارة والقيادة؟ اللهم لا، استمع معي يا صديقي للصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه يحكي عن نفسه قائلا:” قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»[5]، بل أزيدك أُخي الحبيب وأقول لك إن رسولنا صلى الله عليه وسلم قدم على أبي ذر من هو أحدث منه إسلاما، وأقل منه تضحية، وعطاء، وجعلهم في الصداره كخالد بن الوليد،وعمرو بن العاص.
في المجال العسكري
وهل لرجل اليوم عمره في الدعوة ثلاثة أشهر أن يأخذ مكانا في القيادة العسكرية والسياسية مهما كانت مواهبة وأخلاقه؟!
في غزوة ذات السلاسل نجد “رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار عمرو بن العاص رضي الله عنه مباشرة .. وبطبيعة عمرو الحذرة الداهية طلب المدد حيطة لما بلغه من كثرة العدو، وكان مددا من خيار أهل الأرض فمعظمهم من المهاجرين الأولين، وعليهم أبو عبيدة وفيهم أبو بكر وعمر .. ولا يرضى عمرو أن يكون تبعا لأبي عبيدة، وعظمة أبي عبيدة وسماحته ووصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له ألا يختلفا دفعته للقول: لئن عصيتني لأطيعنك، وسلم إمرة الجيش لعمرو بن العاص الذي كان قبل فترة وجيزة يخطط لضرب عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبشة…ومن حيث الحرب فلقد أبدى عمرو إمكانات فائقة ونفذ الهدف المرسوم كله ووطىء أرض قضاعة إذ كان مهيأ لذلك فأمه أو أخواله من بنى قضاعة.”[6]
وفي الجانب المالي لا بد أن يكون هذا الرجل الذي دخل المدينة وليس له بيت يؤويه، فضلا أن يكون معه درهم واحد في الصدارة، فهاهو يقتحم على اليهود معقهلم التاريخي السوق، ريثما يبيع ويشتري ليصبح رقما صعبا في سوق المال داخل عاصمة الإسلام الوليدة، ويبز معشر يهود، لندع عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يتحدث عن نفسه حيث يقول:”لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَظَنَنْتُ أَنِّي سَأُصِيبُ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً “[7]
في المجال الإعلامي
وفي الجانب الإعلامي كان السلاح الإعلامي النافذ في هذا الوقت هو الشعر، حيث تتناقله الألسن، وتعتمل به القلوب، أسرع من الرياح التي يتردد صداها في هذه الصحراء الشاسعة، من ثم قام كل من كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، وحسّان بن ثابت رضي الله عنهم أهل الصنعة الشعرية والتخصص بأمرين في غاية الأهمية:
الأول: حماية أعراض المسلمين التي كان يستبيحها شعراء قريش بهجائهم للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم .
الثاني: الهجوم على قريش وحلفائها، وبيان زيف معتقداتهم وضحدها، والسخرية منها، وفضح ظلم قريش وعدونها.
لكن من أين لشاعر المدينة حسان رضي الله عنه بمعلومات، أو ما نسميه نحن اليوم قاعدة بيانات تمكنه من الوقوف على مسالب القوم، وأماكن الضعف فيهم؟ هنا يأتي دور العالم المتخصص في التاريخ والأنساب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فَقَالَ:رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لحسان: لَا تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا “[8]
ولعلك تندهش كثيرا حين تعلم أنه صلى الله عليه وسلم راعى حتى حسن الصوت، فحين رأى عبدالله بن زيد الأذان في رؤياه رضي الله عنه قَالَ له صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا رُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتَا» “، ولك أن تقف طويلا يا صاحبي مع قوله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتَا.[9]
بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنك لم تكتف بتوظيف الطاقات أمثل توظيف، بل راعيت كذلك السمات الشخصية، والقدرات العقلية، والفروق الفردية والاجتماعية، حتى نفذت ببصيرتك إلى أغوار النفوس فها أنت تقول:”أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهَا فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهَا حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَقْرَؤُهَا لِكِتَابِ اللهِ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ” [10]
هذا غيض من فيض ولو تتبعنا السيرة النبوية كاملة والخلافة الراشدة لضاق بنا المقام، وما هذا أوان الاستطراد في أعماق التاريخ لنتباكى على ماض تليد، إنما الغاية أن نستلهم من تلك النظرة التاريخية ما ينفعنا في واقعنا، ويعيننا على العبء الثقيل الذي أُرهق به كاهلنا.
ألا ترى معي أن الهوة بين الماضي والحاضر واسعة، فالمتصدرون اليوم لركب الحركة الإسلامية جلهم من غير المتخصصين في ميادينهم، فترى الرجل منهم يتصدر للقيادة والسياسة ويخوض غمار الحياة الحزبية والبرلمانية وهو صفر اليدين من علوم هذا الميدان وأدواته، وأحيانا يدلو بدلوه في كل مجال، وكأنه أُوتي جوامع الكلم، أستغفر الله، من ثم يأتي بالمضحكات المبكيات، وقديما قيل إذا تكلم الرجل في غير فنه أتى بالعجائب، وعلى هذا فقس في كل ميدان (الأمن- الإعلام- الإدارة – الاقتصاد – العلاقات الدولية – العمل التطوعي والحقوقي …إلخ ) فستجد هواة غير محترفين، متطوعين غير متفرغين .
يا قومنا تخصصوا رحمكم الله، وأعطوا القوس باريها قبل فوات الأوان، وأسسوا مراكزكم البحثية والعلمية التي ترجعون إليها في الملمات، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7).
[1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 107)
[2] مسند أحمد ط الرسالة (29/ 518
[3] السنن الكبرى للنسائي (8/ 31)
[4] مسند أحمد ط الرسالة (11/ 207
[5] صحيح مسلم (3/ 1457)
[6] المنهج الحركى للسيرة النبوية منير محمد الغضبان ج3 ص106
[7] مسند أحمد ط الرسالة (20/ 115)
[8] صحيح مسلم (4/ 1935)ص54
[9] خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 54
[10] مسند أحمد ط الرسالة (20/ 252