المعاملات المالية في كل العصور من صميم حياة الناس؛ لذا اهتم القرآن الكريم بها اهتماماً عظيماً؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)} (النساء: 29)، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275).
من المعاملات التي وقع فيها بعض الناس في العصر الحديث، نظراً لتداخل المعاملات المالية بينهم، «بيع الدين».
وصورة هذا البيع تكون على النحو التالي:
يكون على الرجل دين لرجل آخر، فيقوم الرجل الدائن ببيع الدين إلى شركة أو فرد بأقل من قيمة الدين الأصلي لتحصيل هذا الدين فيما بعد، ثم تأتي الشركة أو الفرد الذي اشترى الدين ويطالب بسداد هذا الدين.
وهذه معاملة من المعاملات التي تساهل فيها بعض الناس؛ ظناً أنها مباحة ولا شيء فيها، ولقد بيَّن العلماء حكم هذه المعاملة على النحو التالي: لا يصح بيع الدين لغير من هو عليه (أي لغير المدين)، عند جمهور الفقهاء. (الموسوعة الفقهية، 21/ 131).
وعلة منع بيع الدين لغير المدين أمران:
الأول: عدم القدرة على التسليم، ومن شرط صحة البيع القدرة على تسليم المبيع، فإن لم يكن البائع قادراً على تسليم المبيع؛ كان هذا من بيع الغرر المنهي عنه.
الثاني: أن الدين إذا كان من الأصناف التي يجري فيها الربا؛ كالنقود، وبيع بجنسه متفاضلاً متأخراً، كان ذلك عقداً ربوياً محرماً، يجتمع فيه ربا الفضل «لأنه من جنسه»، وربا النسيئة «للزيادة مقابل التأخير»؛ فكأن الشركة أو الفرد الذي اشترى الدين هنا أقرض الدائن مبلغاً، على أن يسترد أكثر منه لاحقاً.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة بشأن موضوع بيع الدين:
من صور بيع الدين غير الجائزة:
أ- بيع الدين للمدين بثمن مؤجل أكثر من مقدار الدين؛ لأنه صورة من صور الربا، وهو ما يطلق عليه «جدولة الدين»، وهو ممنوع شرعاً.
ب- بيع الدين لغير المدين بثمن مؤجل من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنها من صور بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين بالدين) الممنوع شرعاً.
ومن التطبيقات المعاصرة في التصرف في الديون:
لا يجوز حسم الأوراق التجارية (الشيكات، السندات الإذنية، الكمبيالات)؛ لما فيه من بيع الدين لغير المدين على وجه يشتمل على الربا». انتهى.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعاً، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم. (مجلة «مجمع الفقه»، العدد السابع ج 2، ص9).
وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة» (13/ 333): «هل بيع الشيكات أو الكمبيالات حلال ولو كان بالخسارة؛ أي أقل من الثمن المكتوب؟
الجواب: بيع الشيكات على الكيفية المذكورة لا يجوز؛ لما فيه من ربا النسأ وربا الفضل». انتهى.
وعند سؤاله عن شرح حديث «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»، قال الشيخ ابن باز يرحمه الله: بيع الكالئ بالكالئ هو: بيع الدين بالدين، والحديث في ذلك ضعيف، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في «بلوغ المرام»، ولكن معناه صحيح، كما أوضح ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه «إعلام الموقعين»، وكما ذكر ذلك غيره من أهل العلم.
وصفة ذلك أن يكون للشخص دين -عند زيد مثلاً- فيبيعه على شخص آخر بالدين، أو يبيعه على من هو عليه بالدين؛ لما في ذلك من الغرر، وعدم التقابض.
لكن إذا كان المبيع والثمن من أموال الربا، جاز أخذ أحد العوضين عن الآخر، بشرط التقابض في المجلس، مع التماثل إذا كانا من جنس واحد.
أما إذا كانا من جنسين، جاز التفاضل، بشرط التقابض في المجلس؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله بعض الصحابة، فقال: يا رسول الله: إننا نبيع بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ عنها الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» (رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأبو داود والنسائي، بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الحاكم). (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 19/ 42).
__________________
(*) واعظ بالأزهر الشريف.