الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- له خصوصية، وله مذاق خاص؛ وذلك لما يمثله النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين من قيمة ثابتة، ومكانة كبرى؛ إذ كان السبب في هداية البشرية، وإخراجها من الظلمات إلى النور، ولما تعرض ويتعرض له النبي -صلى الله عليه وسلم- من حملات غربية ظالمة جائرة، هيجت مشاعر المسلمين ووحدت صفهم وجددت الإيمان به عندهم وزادت حبه -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم. وبقدر ما تُظهر أحداث الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من جوانب سلبية عند المسلمين فقد كان لها آثار إيجابية عديدة ومتنوعة.
ومن المعتاد في الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتكلم الدعاة والخطباء عن محاسن هذا النبي، وعن مكانه ومكانته عند الله، وعن أخلاقه وسيرته العطرة، وربما كان الحديث عن مكانته ومحاسنه أكبر مساحة من الحديث عن أخلاقه وشمائله وإبراز مواضع القدوة وجوانب الأسوة في حياة هذا النبي العظيم.
بيد أن هناك جانبا من الأهمية بمكان يمكن أن نلمحه وسط هذه المحفلة الإسلامية الكبرى التي تعم أرجاء العالم الإسلامي بهذا النبي الكريم، وهو الجانب الإيماني الذي يجدد الإيمان به والحب له -صلى الله عليه وسلم-.
والجانب الإيماني ليس مقصورا على ما ينعكس على القلب وينمي فيه الحب له والإيمان به فقط، بل يتخطى ذلك ليشمل تجديد السلوك والقيم الإنسانية والأخلاق العظيمة التي هي ثمرة لهذه القيم وتلك الأخلاق.
تجديد الإيمان به
ومن أهم اللمحات الإيمانية التي يمكن أن يلمسها المسلم في الاحتفال بمولد النبي الكريم أنه يجدد الإيمان به، ويجدد البيعة له أن يظل على العهد معه والاتباع له والاقتداء به والعمل بما جاء به وتبليغ رسالته في العالمين، وهو يستشعر.
ابتداء: خطورة هذا الحكم الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»( صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته).
هذا الحكم يدع القلب وجلا مذعورا، ويتركه مدعوًّا لمراجعة حقيقة إيمانه في هذه المناسبة، ويحمله على تجديد هذا الأمر، واستكمال مكملاته وتحسينياته؛ لأنه يعتبر شطر الإيمان.
تجديد الحب وزيادته
ومن الملامح المهمة في هذه المناسبة أن الحب له يزداد رصيده في قلوب المؤمنين؛ ذلك أن بعض العلماء والدعاة والمسلمين الواعين يقضون هذه المناسبة في قراءة سيرته والحديث عنها والاستماع لها مستعرضا ما حدث في الفترة المكية وما لاقاه النبي هناك حتى سالت منه الدماء، ثم إخراجه من أحب البلاد إلى قلبه التي ودعها في مشهد حزين يبعث على الإشفاق والحزن، وما كابده -صلى الله عليه وسلم- في هجرته إلى المدينة، ثم ما جاهد وكابد في مواقعه ومعاركه المختلفة التي بلغ فيها الجهد منه منتهاه.
كل هذا من أجل من؟ لا شك أن الإجابة واضحة كالشمس، وهي من أجل أمته التي حرص على هدايتها وإنقاذها من النار، وإخراجها من الظلمات إلى النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16).
ماذا يكون شعورنا نحو من يعز عليه تعبُنا وعنتُنا، ودائما حريص علينا، رءوف رحيم بنا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128).
ماذا نستشعر تجاه من لا هم له إلا نحن، حتى في الآخرة يوم العرض ويوم الاستشفاع، يوم ينشغل كل نبي بنفسه حيث يذهب الناس إلى الأنبياء فيقولون: «نفسي نفسي»، ثم يأتي الناس إليه فيقوم ويقول: «أنا لها فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ثم أَخِرُّ له ساجدا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل» (رواه مسلم بسنده عن أنس، كتاب الإيمان. باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها).
في هذا اليوم الذي ينشغل فيه خيرة خلق الله بأنفسهم يجرد هو نفسه تماما من الانشغال بها، ويوجه كل همه إلى أمته وأحبابه وأتباعه، وليس هذا بالطبع انتقاصا من مكانة الأنبياء، بل إبراز لقيمة هذا النبي الكريم، وبيان منزلة أمته منه، وحبه لها، وخوفه عليها عليه الصلاة والسلام.
أيُّ حبٍّ يُسكَب في نفوس أمته وهي تطالع سيرته الشريفة التي جَهِدَ فيها من أجلنا، وإلى كم يبلغ مقدار هذا الحب وهم يسمعون عن يوم الفزع الأكبر، وكل هم النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يبقى واحد من أمته في النار؟!
ولذلك لم يكن مستغربا ولا مستبعدا أن يُنفى الإيمان عمن لا يقدم حب النبي -صلى الله عليه وسلم- على حب نفسه وولده والناس جميعا. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (رواه مسلم، كتاب الإيمان. باب وجوب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة).
ميلاد جديد للإنسان
ومع ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- نلمح ميلادا جديدا للإنسان -مطلق الإنسان- وهو ملمح يرتبط بالقيمة، حينما رفع الإسلام مكانته، وشرَّفه الله وكرمه وكلفه، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في الكون جميعا.
حين جعل له حرمة، وجعل له ذمة، وحرره من العبودية لغير الله، وحرم الرق والظلم والقهر، وأن يسام الخسف، فحقق فيه معاني الإنسانية العظيمة.
فحل العدل محل الظلم، والنور محل الظلام، والهداية محل الضلالة، والوحدة محل الفرقة، والبناء محل الهدم، والحرية محل الرق والعبودية، والتسامح محل العصبية، والانتصار للمبدأ والحق محل الانتصار لفرد أو قبيلة.
ومن هنا نقول: إن بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذه الرسالة العظيمة كان بمثابة ميلاد جديد لبني الإنسان، مطلق الإنسان، الذي يعتبر تكريمه والإعلاء من شأنه وقيمته لا ينقصه الوضوح والبروز في الإسلام وشريعته.
ميلاد جديد للمكان
ومع ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- يولد المكان الذي وطئته قدماه الشريفتان ميلادا جديدا، فمكة والمدينة ليستا كأي بلاد على وجه الأرض لأنهما بلدتان عاش فيهما ومشى عليهما خير خلق الله، فلا غرابة أن يكون لهما خصوصية ومكانة في قلوب المسلمين، ولهما علاقة وجدانية تجعل القلوب تهوي إليهما شوقا وحبا وتحنانا.
فالمكان بذاته لا ميزة له إلا بمن يمشي فيه، ولا شرف له إلا بالقيم المحمودة الموجودة فيه والتي تدب عليه، ولولا ذلك لم يكن للحبشة في التاريخ هذا الشأن، إذ دلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة إليها، لأن هناك قيمة عظيمة، بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال للمسلمين: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا» (سيرة ابن هشام، 2/164. دار الجيل. بيروت. ط أولى. 1411هـ).
وبهذه القيم كان ميلاد جديد لأرض الحبشة خلدها في التاريخ، وشرفها بذكر النبي لها وهجرة المسلمين إليها لما تتمتع به هذه البقعة من قيم العدل والصدق والحرية.
ميلاد جديد للزمان
ومع ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- نلمح ملمحا قيميًّا آخر، وهو ميلاد جديد للزمان، إذ شَرُف شهر ميلاده بميلاده -صلى الله عليه وسلم- والزمان المجرد لا شرف له ولا ميزة تميزه عن غيره إلا لما احتضنه هذا الزمان واحتواه من أحداث كبار غيرت وجه التاريخ، فشهر رمضان لم تكن له قيمة حتى نزل فيه القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185). وكذلك ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1).
ولا أعظم في الأحداث على الإطلاق من ميلاد المصطفى الذي غير وجه البشرية، وقاد البشرية من قيم الجهالة والضلالة والغواية، إلى قيم العلم والنور والهداية، ومن هنا كانت قيمة الزمن في الأحداث التي تلت ذلك الحدث، حيث الهجرة والغزوات والمعارك التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي فإن ميلاده مثَّل ميلادا جديدا للزمان الذي ولد فيه، وشرفه وكرمه، وجعل له ميزة ليست لباقي الأزمان.
وأخيرا أريد أن أقرر أنه من الظلم لنبينا -صلوات الله عليه- أن نجعل الاحتفال به -وقد تحقق فيه كل هذه المعاني الإيمانية والقيمية- مقصورا على يوم من الأيام أو شهر من الشهور.
إن سيرته يجب أن تكون حية بيننا، ليتجدد إيماننا به دائما، ويزداد حبنا له أبدا، ونستشعر الميلاد الجديد للإنسان والمكان والزمان، ونتمثل أخلاقه التي لا بد أن تكون موضع القدوة والأسوة، وما أكثر جوانب القدوة ومواطن الأسوة في حياة هذا النبي العظيم، لتستقيم حياتنا الفردية والأسرية والعالمية؛ حيث بلغ -عليه السلام- في كل جانب مداه وأدرك منتهاه.
ويحسن بي أن أختم هذه اللمحات بكلمة لداعيتنا الكبير الشيخ محمد الغزالي إذ يقول -يرحمه الله- في كتابه الماتع “فقه السيرة”: “إن المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره، لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة… ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاما، وأغلاه عندما يكون قدوة وإماما” (فقه السيرة، محمد الغزالي، 9، 12. دار الدعوة. بتخريج الشيخ الألباني. ط. ثانية).
———–
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.