محمد بن إسحاق بن خُزيمة بن المغيرة ابن صالح بن بكر، إمام الأئمة، أبوبكر السُّلَمي النَّيْسَابوري، المجتهد المطلق، البحر العجاج، والحبر الذي لا يُخاير في الحِجى، ولا يُناظَر في الحِجَاج، جمع أشتات العلوم، وارتفع مقدارُه فتقاصرت عنه طوالع النُّجوم، وأقام بمدينة نيْسابور إمامَها حيث الضّراعم مُزدحِمَة، وفردها الذي رفع العِلْمُ بين الأفراد علَمَه، والوفود تَفِد على رَبْعِه لا يتجنّبه منهم إلا الأشقى، والفتاوَى تُحمَل عنه برّاً وبحراً وتشقُّ الأرض شقّاً، وعلومه تسير فتهدي في كل سوداء مُدْلهِمَّة، وتمضي عَلَما تأْتمُّ الهداةُ به، وكيف لا وهو إمام الأئمة.
كالبحر يقذِف للقريب جواهرا
كرَماً ويبعثُ للغريب سَحائبا
مولده في صفر، سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
سمع من خلق، منهم: إسحاق بن رَاهويه، ومحمد بن حُمَيد الرَّازي، ولم يحدث عنهما؛ لكونه سمع منهما في الصِّغَر، وكان سماعه بنيْسابور في صِغَره، وفي رحلته بالري، وبغداد، والبصرة، والكوفة، والشام، والجزيرة، ومصر، وواسط.
روى عنه خلق من الكبار، منهم، البخاري، ومسلم خارج “الصحيح”.
ومحمد بن عبدالله بن عبدالحَكَم، شيخُه.
قيل لابن خزيمة يوماً: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ماءُ زمزم لِماَ شُرِب لَهُ”، وإني لمّا شربتُ زمزم، سألت الله علماً نافعاً.
قال القفال الشاشي: سمعت أبا بكر الصيرفي، يقول: سمعت ابن سُرَيج، يقول: ابن خُزَيْمة يُخرج النُّكَت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمِنْقاش.
وقال الربيع بن سليمان: استفدنا من ابن خُزيمة أكثرَ مما استفاد منّا.
وقال محمد بن حِبَّان التّميمي: ما رأيتُ على وجه الأرض من يحسن صناعة السُّنَن، ويحفظ ألفاظَها الصِّحاحَ وزياداتِها، حتى كأن السننَ كلها بين عيْنيه، إلا محمد بن إسحاق فقط.
وقال أبو علي الحسين بن محمد الحافظ: لم أرَ مثلَ محمد بن إسحاق.
قال: وكان ابن خُزَيمة يحفظ الفقهيّات من حديثه، كما يحفظ القارئ السورة.
وقال الدارَقُطْني: كان ابن خُزَيمة إماماً، ثَبْتاً معدوم النظير.
وحكى أبو بِشْر القَطّان، قال: رأى جارٌ لابن خُزَيمة من أهل العلم، كأن لوحاً عليه صورة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وابن خُزَيمة يصْقُله، فقال المُعبِّر: هذا رجل يُحيي سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحاكم في “علوم الحديث”: فضائلُ ابن خزيمة مجموعة عندي في أوراق كثيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً، سوى المسائل، والمسائل المُصنّفة أكثر من مائة جزء، وله “فقه حديث بريرة” في ثلاثة أجزاء.
وعن عبدالرحمن بن أبي حاتم، وسئل عن ابن خُزَيمة، فقال: ويحكم! هو يُسأَل عنّا، ولا نُسأَل عنه، وهو إمام يُقتدى به.
قال محمد بن الفضْل: كان جَدّي أبوبكر لا يدّخر شيئاً جُهْدَه، بل يُنفِقه على أهل العلم.
وقيل: إن ابن خُزَيمة عمِل دعوةً عظيمةً ببستان، جمع فيها الفقراء والأغنياء، ونقل كلّ ما في البلد من الأكل والشّواء والحَلوى.
قال الحاكم: وكان يوماً مشهوداً بكثرة الخلْق، لا يتهيّأ مثلُه إلا لسلطان كبير.
مات ابن خُزَيمة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
وفي مَرْثيّته قال بعض أهل العلم:
يا ابْنَ إسحاق قد مضيْتَ حميداً
فسقى قبرَك السحابُ الهَتُونُ
ما تولّيتَ لا بل العلمُ ولّى
ما دفنّاك بل هو المدفونُ(1)
العبر والفوائد التربوية:
– طلب العلم والحرص على تعلم ونشر الحديث الشريف شرف في الدنيا وعلو في الآخرة.
– طلب الحديث الشرف يورث القبول بين الناس والحب والثناء الحسن وحسن الظن.
– يظل العلماء ذوي جود وسخاء وكرم يكرمون الفقراء ويحترمون الأغنياء.
– كان علماؤنا يتواصلون مع شرائح المجتمع غنيهم وفقيرهم، بل ويحرصون على دعوة الفقراء إلى موائدهم ودورهم.
– الحرص على درجة الإتقان في التخصص الذي اختاره طالب العلم؛ حتى يحسن فنه وتخصصه وتفيد منه أمته.
– حرص العلماء على الدعاء وهم موقنون بالإجابة.
– الحرص على الإنفاق على طلبة العلم باب من أبواب الخير كان العلماء المقتدون يحرصون عليه؛ فكفالة طالب العلم أو إمام مسجد أو داعية تفتح أبواب الأجر العظيم لصاحبها، والدال على الخير كفاعله.
والحمد لله رب العالمين.
__________________
الهامش
(1) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج3، تحقيق: محمود محمد الطناحي، عبدالفتاح محمد الحلو.