يعيش العالم عصر الاقتصاد الرقمي، بفعل ثورة التقنية والاتصالات والمعلومات، ويتكون الاقتصاد الرقمي من عنصرين أساسيين؛ أولهما: الأعمال الإلكترونية، وثانيهما: التجارة الإلكترونية، ومنهما تتفرع مكونات الاقتصاد الرقمي.
استخدم مصطلح الأعمال الإلكترونية لأول مرة في العام 1997م من خلال شركة «IBM” لتمييز أعمال أنشطة الأعمال الإلكترونية عن التجارة الإلكترونية، وعرفت الأعمال الإلكترونية بأنها مدخل متكامل ومرن لتوزيع قيمة الأعمال المتميزة من خلال ربط النظم بالعمليات التي تنفذ من خلالها أنشطة الأعمال الجوهرية بطريقة مبسطة ومرنة، وباستخدام تكنولوجيا الإنترنت.
ومن جانب آخر، عرفت منظمة التجارة العالمية التجارة الإلكترونية بأنها مجموعة متكاملة من عمليات إنتاج وتوزيع وتسويق وبيع المنتجات بوسائل إلكترونية؛ فالتجارة الإلكترونية تمثل عمليات التداول الإلكترونية من خلال بيع وشراء السلع والخدمات عبر الإنترنت، فإذا كانت التجارة الإلكترونية قوامها عمليات البيع والشراء عبر شبكة الإنترنت، فإن الأعمال الإلكترونية قوامها تسخير التقنية لخدمة الأعمال، ومع ذلك؛ فإن مصطلح التجارة الإلكترونية سبق في الترتيب مصطلح الأعمال الإلكترونية، حيث عرف الأول طريقة للظهور في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
والتجارة الإلكترونية التي أصبحت محركاً مهماً للتجارة العالمية لها من الفرص والمزايا ما يعزز وجودها، ويكشف المستقبل المنتظر لها، فهي تتسم بانخفاض التكاليف، لا سيما ما يتعلق بتكاليف التسويق والترويج والتخزين، كما أنها جعلت من العالم، ليس قرية صغيرة فحسب؛ بل سوقاً صغيرة بعيدة عن القيود الزمانية والمكانية، كما أنها فتحت الأسواق أمام المشروعات الصغيرة، ووسعت من دائرة الاختيار أمام المستهلكين من خلال تنوع السلع، والمنافسة فيما بينها في سوق مفتوحة، وهو ما يعود كذلك على المستهلك إيجاباً من حيث جودة السلع وسعرها، وتقديم خدمة ما بعد البيع، كما أنها توفر الكثير من الجهد والوقت في شراء السلع والخدمات.
ومع ذلك؛ فإن هناك تهديدات تواجه التجارة الإلكترونية، من أهمها المشكلات القانونية، حيث تعوق بعض الدول دخول سلع وخدمات معينة، كما أن هناك دولاً حتى الآن لم تطور أنظمتها التشريعية بصورة تدعم من وجود ونمو التجارة الإلكترونية.
كما أن التجارة الإلكترونية تواجه كذلك مشكلات تقنية وأمنية من خلال ما تتعرض له من اختراقات أمنية ووسائل التجسس التي تتطلب إنفاق المزيد من الأموال للحماية التقنية من خلال امتلاك البرامج الخاصة بمواجهة ذلك، إضافة إلى عدم توافر ضمانات كافية تحمي المستهلك من الغش والتغرير والنصب من بعض المواقع الإلكترونية.
وقفة إحصائية
كشفت الإحصاءات (وفق موقع إحصائيات التجارة الإلكترونية) أن حجم التجارة الإلكترونية حول العالم بلغ 3.8 تريليون دولار في العام 2003م، ثم وصل إلى 6.8 تريليون دولار في أواخر العام 2004م، وقد استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية على 80% من حجم التجارة الإلكترونية على مستوى العالم، بينما وصلت نسبة دول أوروبا الغربية 15%، واليابان 4%، وبقية دول العالم 1%، ومنها دول العالم الإسلامي.
وفي بيانات لمنظمة التجارة العالمية، كشفت أن قيمة المبيعات في التجارة الإلكترونية في الفترة ما بين 2013 و2015م ارتفعت بنسبة 56%، لتصل إلى نحو 25 تريليون دولار، وأن أسواق التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووسط أوروبا والهند تمثل 2.5% من إنفاق التجارة الإلكترونية العالمي.
وفي تقارير أخرى كشفت أن حجم سوق التجارة الإلكترونية في العالم العربي بلغت 7 مليارات دولار، واحتلت الإمارات المرتبة الأولى بمبلغ 2.3 مليار دولار، تلتها السعودية 1.5 مليار دولار، فمصر 1.4 مليارات دولار، فالكويت ولبنان والأردن 0.56، و0.28، و0.21 مليار دولار على التوالي، ويتوقع وصول حجم سوق التجارة الإلكترونية في العالم العربي في عام 2020م إلى 13.4 مليار دولار.
إن التجارة الإلكترونية فرصة لعالمنا العربي والإسلامي لتشجيع الصادرات، وترشيد الواردات، وتنمية ريادة الأعمال والمشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ إنتاجاً وتسويقاً، مما يسهم في التمكين الاقتصادي، وامتصاص البطالة بصفة عامة وبطالة الشباب بصفة خاصة، ويحسّن من وضع ميزان المدفوعات؛ وهو ما يحتم الخروج من نفق التقليد إلى رحاب التطوير، وبذل الجهد الكافي لتوفير المقومات اللازمة للتجارة الإلكترونية من خلال توفير بنية تشريعية سليمة تحقق الأمان الإلكتروني، وتحول دون انتهاك خصوصية ومعلومات المستهلك، وتنظيم الضرائب بصورة واقعية بعيدة عن التعسف، بل وتقديم تسهيلات ضريبية.
وكذلك توفير شبكة اتصالات متطورة بصفة مستمرة، مع السعي المستمر لرفع الوعي الإلكتروني الذي أصبح متطلباً أساسياً للمجتمعات، وفي الوقت نفسه؛ تأهيل كوادر بشرية مؤهلة لممارسة الأعمال الإلكترونية، وفي القلب منها التجارة الإلكترونية، ومراعاة الضوابط الشرعية في التداول الإلكتروني بصورة تحول بين أكل المال بالباطل من ربا وغرر وغش وتغرير وتدليس وخديعة.
******************
خواطر اقتصادية من الهدي النبوي
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» (رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم).
مصطلحات الحديث:
سلف: بفتحتين أي قرض، وهو يعني شرعاً: دفع مال لمن ينتفع به ويرد مثله.
ما لم يقبض: أي ما لم يملك، ولم يقبض.
ما ليس عندك: أي ما ليس في ملكك وقت العقد من السلع المعينة.
الدروس الاقتصادية في الحديث:
1- لا يجوز الجمع بين قرض وبيع، من خلال التعاقد على أن يبيع شخص لآخر سلعة على أن يقرضه قرضاً، وما ينتج عن ذلك ضمناً من بيع السلعة بأكثر من قيمتها نظير القرض فتكون الزيادة في ثمن السلعة منفعة القرض وذلك عين الربا، ومن صوره في واقعنا المعاصر الشراء بالهامش الذي يتم فيه منح قرض في الأسواق المالية من خلال السمسار وانتفاعه بعمولة طلب شراء وبيع العميل للأوراق المالية.
2- لا يجوز شرطان في بيع بصورة تتعارض مع مقتضى البيع كبيع العينة الذي يتم فيه اشتراط شراء سلعة بثمن معين مؤجل ثم بيعها لنفس البائع بثمن أقل نقداً، ومثاله الآن التورق المصرفي المنظم.
3- لا يجوز ربح ما لم يضمن، فمن اشترى سلعة ولم يقبضها لا يجوز له بيعها إلا بعد قبضها ودخولها في ضمانه، وهذا معنى أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان»، وهو ما يحول دون التداول الوهمي على السلع وارتفاع أثمانها بدون مقتضى قوى السوق الحقيقية من عرض وطلب.
4- لا يجوز بيع ما ليس عندك، فمن لا يمتلك سلعة لا يجوز له بيعها قبل امتلاكها، وهذا خاص بالسلع المعينة دون السلع الموصوفة في الذمة، كما أن هذا لا يمنع من الوعد بالبيع في السلعة المعينة كما في المرابحة للآمر بالشراء.
_________________________________________
(*) أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم، رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي.