أحمد زكريا عبد اللطيف
الدعوة إلى الله شرف عظيم لا يرقى إليه إلا أولو العزمات، ولا ينال هذا الشرف إلا العاملون المخلصون؛ فهي مهمة الرسل، الذين هم خيرة الله من عباده، وسفراؤه إلى خلقه، وتحمل هذه المهمة الشريفة بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
والدعوة إلى الله هي أشرف الأعمال بعد الإيمان بالله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).
والداعية رجل صفت نفسه، ورق قلبه، وخشعت جوارحه، ولان فؤاده، فهو دائم التلقي من ربه، شديد التوجه إليه، عظيم الرجاء فيه: “يرجو رحمته ويخشى عذابه”؛ فهو بين الخوف والرجاء، دائم الأمل في وجهه – سبحانه – أن يقبل منه عمله، وأن يبارك له سعيه، وأن يفتح له قلوب الصالحين من عباده، ولسان حاله يردد: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127)، وكله أمل أن يسلكه ربه في مقام الصالحين الذين قال فيهم – جل وعلا -: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف: 170).
أهم صفات الداعية
إن الداعية الذي نقصده يختلف عن الخطيب، فإذا كان الخطيب خطيبا وكفى، فالداعية مؤمن بفكرة، يدعو الناس إليها بالكتابة والخطابة والحديث العادي، والعمل الجدي في سيرته الخاصة والعامة وبكل ما يستطيع من وسائل الدعاية، فهو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة يؤثر في الناس بعمله وشخصه.
الداعية طبيب اجتماعي
فهو يعالج أمراض النفوس، ويصلح أحوال المجتمع الفاسدة، فهو ناقد بصير، يقف حياته على الإصلاح إلى ما شاء الله، وهو رفيق وصديق، وأخ للغني والفقير، والكبير والصغير، ومن هذه الصفات تشيع المحبة في قلبه، وتتدفق الرحمة من عينيه، وتجري المواساة على لسانه ويديه، وهذا ضروري جدا للداعية.. فدعوته فيض من مواهب الروح والجنان، لا من صفات البلاغة وملكات اللسان، والداعية قائد في محيطه، وسياسي في بيئته، وزعيم لفكرته ومن يتبعه في ناحيته، وكل هذا لا تنهض الخطابة وحدها بحقوقه، فلا بد له من التأثير النفساني، والهيمنة الروحية، والاتصال بالله، واستعانة العقل بما حصل من تجارب التاريخ، وأحوال الناس.
الداعية يعيش هموم أمته
فهو يشعر في نفسه أنه المسؤول وحده عن أمنها واستقرارها، وحراسة عقيدتها وصيانة كيانها والمحافظة على قيمها، إنه يشعر أن كل خطر عليها هو خطر عليه، وكل بأس يصيبها فإنه نازل به، إنه منها بمنزلة الراعي الشفوق على غنمه، والأب الحاني على بنيه.
الداعية كيس فطن
فلا يكفي في ثقافة الداعية أن يكون مؤمنا بدعوته مخلصا لفكرته، مهموما بآلام أمته، بل لا بد مع ذلك أن يكون واعيا بثقافة عصره، متسلحا بسلاح خصمه، قادرا على رصد أساليبه وخططه، لا سيما وقد ازدهرت في زماننا اليوم علوم حديثة نشأت في ظل الحضارة المادية الأوربية، ونمت في بيئات دنيوية وإلحادية، غاية همها إمتاع الجسد، ورهافة البدن ونعومة العيش.
فلا بد للداعية من وعي وبصيرة وثقافة تعينه على أن يرى ببصيرته ما تعجز بصائر الكثيرين عن رؤيته، ويدرك بفطنته وخبرته ما يحاول الخبثاء الماكرون تمريره بحذقهم ومرانهم، وكثرة إتقانهم لفنون الدس والتمويه والتضليل والخداع، فينبغي له أن يكون بصيرا بأحوال أصحاب الأقلام، فطنا لأساليبهم، واعيا لما تضمره النفوس الملتاثة من خبث وكيد وحقد، يخفى على البسطاء والعوام، ويدركه ذوو البصائر والأفهام.
وهذا الصنف ليس وليد اليوم بل هو من القدم ما جعل الله يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فقال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30).
وهذا ما يؤكد عليه الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- فيقول منكرا على المسلمين جهلهم بواقعهم، وانشغالهم بأمور صغيرة، واهتمامات حقيرة: “ترى ماذا يشغل فقهاءنا ومفكرينا، إذا كانت حياة الدين كله في مهب العواصف؟! وما هي القضايا الأهم التي تشد انتباههم، ويبدؤون فيها ويعيدون؟ وإذا كان المسلمون حملة دعوة عالمية فهل درسوا العالم حولهم، وعرفوا ما يسوده من ملل ونحل؟ وهل عرفوا العدو والصديق؟
وإذا قيل لهم في كتابهم عن المتربصين بهم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217).
فهل فتحوا أعينهم على مكامن الخطر، واتخذوا أسباب الحيطة” (هموم داعية، الشيخ محمد الغزالي، ص49).
الداعية يؤمن بأن الهداية بيد الله وحده
فلابد للداعية بجانب إيمانه بدعوته، وحرصه الشديد على انتشار فكرته، ينبغي ألا ينسى في خضم هذا المعترك أمرا مهما، بل هو أهم العوامل في نجاح الدعوة، وهو أن مفاتيح القلوب ليست بيده، وإنما القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وأن يعلم أن بيانه القوي، وفؤاده الزكي وعزمه الفتي، كل ذلك لا يكفي لفتح قلب أوغل في الباطل وأمعن في الضلال، وأن يضع أمامه دائما قول الحق – سبحانه -: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272).
وينبغي ألا يستوحش من الطريق إذا رأى قلة السالكين، ولا يفت في عضده إعراض المعرضين، وليتذكر قول ربه لنبيه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103).
وليعلم أن الله سائله عن بذل الجهد وإحسان العمل وإخلاص النية ودقة الالتزام بدين الله رب العالمين، ولن يسأله عن إعراض المعرضين وقلة المهتدين فقد عذره الله بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُّؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} (النمل: 80، 81).
الداعية مبلغ عن ربه
وليعلم الداعية جيدا أنه مبلغ عن الله وعن رسوله، فعليه أن يتأدب بأدب الظاهر والباطن، فيطهر باطنه من الحقد والحسد والعجب والكبر والظلم والعقوق، ويطهر لسانه من الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور، لأنه إن تلبث بشيء من ذلك كان أهلا لأن ينفض الناس عنه، ويزهدون في الجلوس إليه أو القرب منه وقد علمنا ربنا سبحانه وتعالى أن نجاح الداعية في دعوته موقوف على إيمانه بها والتزامه بمبادئها وأخلاقها في قوله سبحانه على لسان نبيه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88).
الداعية أمين في نقله
فهو لا يكذب على الله ولا على رسوله فإذا أيقن الداعية أنه مبلغ عن الله وعن رسوله، فيتحتم عليه أن يكون أمينا في نقله عن ربه، متحريا في نقله عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليحذر تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لو ظن أن كذبه سيجلب نفعا أو يدفع ضررا، فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب النار، وهو من أكبر الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم: “ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”.
وليحذر كذلك من الانزلاق وراء إغراء الحكاوي والقصص التي تعجب السامعين وتجذب العوام، وليست من الحقيقة في شيء، بل غالبا ما تأتي هذه القصص أقرب إلى الخرافة وأبعد عن الواقع وأدعى إلى الرفض والسخرية وعدم التصديق.
ومثل هذه القصص الساذجة تنزل بقدر الداعية والدعوة وتعطي لأعداء الدين الفرصة ليشككوا فيه ويسخروا منه ويتطاولوا عليه، متخذين من تلك الإسرائيليات سلاحا يهزون به الراسخ من العقائد والثابت الصحيح من قواعد الدين، ولو اهتم الداعية بالبحث والتحصيل لوجد في الصحيح الثابت عن رسول الله وصحابته ما فيه غنى وكفاية.
الداعية صابر محتسب
فإذا استكمل الداعية جوانب الدعوة إيمانا وأخلاقا وثقافة، وجب عليه أن يوطن نفسه على تحمل ما يقع له في طريق الدعوة من أذى وأن يحتسب ذلك كله عند الله، وأن يعلم أن مهر الجنة غال.
… *** ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
وليضع أمام عينيه دائما قول نبينا صلى الله عليه وسلم: “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات”.
___________________
* المصدر: موقع “الألوكة”.