نستعرض في الحلقة الثانية من “حامد ربيع في مواجهة انهيار أمة” مفهوم الأمن القومي العربي وما آل إليه في الواقع المعاصر، وكيف ترهل وانحسر وتم اختزاله في عناصر جزئية تحمي النظم الحاكمة، لا تحمي ما تحكمه في مواطنيه وحدوده(**).
النظم الحاكمة والأمة العربية (تفرق الإرادات)
يشخص ربيع هنا حالة النظم العربية وعلاقتها بمفهوم الأمة والأمن العربي، وحقيقة الأنظمة العربية وتمكنها من استلام زمام السلطة السياسية في البلاد العربية، ويبين عدم جدارتها الشعبية ولا شرعيتها القومية في ممارسة هذا التسلط السياسي.
إن مفهوم الأمن القومي يرتبط ارتباطاً عضوياً بتكامل الكيان السياسي، والأمة العربية وهي متفرقة متجزئة متعددة الإرادات لا يمكن أن تملك نظاماً للممارسة أساسه تكامل مفهوم الأمن القومي، ولكن بقدر صعوبة بروز المفهوم في تلك اللحظة بقدر أهميته وازدياد خطوة نتائج عدم وضوح معالمه، المنطقة العربية تعيش منطق الشعوبيات والأقليات والطوائف، وقد حل موضع الولاء القومي الولاء الفئوي، خطورة هذا الموقف تنبع من أن القيادات المسئولة تعيش بدورها نفس الظاهرة، قد يكون مرد ذلك أن القيادات الحالية فرضتها الإرادات الأجنبية وهي لا تستند إلى قوة سياسية حقيقية وإلى شرعية نظامية، ولكن الذي يعنينا أن مفهوم الأمن القومي العربي لا وجود له، وليس أدل على ذلك من تيارات الانعزالية في مصر باسم الفرعونية والتقوقع في العراق باسم حزب البعث [ والآن تبدلت من البعثية إلى المُحاصصة الطائفية والعرقية في أسوأ معانيها].
أين القوة العربية؟
يرى ربيع أن مفهوم التفاوض السلمي على بساط من الضعف الذاتي، ليس سبيلًا من سبل المحافظة على الأمن القومي العربي، بل هو أحد مظاهر التفريط العربي في الأمن والأمة، وأن استعادة مفهوم القوة من الضروري لاستعادة المفهومين السابقين: الأمن والأمة.
إن الشرعية القومية واحدة ومطلقة ولا تقبل لا التجريح ولا التنازل المشاكل القومية لا تعرف أسلوب التفاوض، ومن ثم لا تقبل استخدام أسلوب الاتصال كأداة وحيدة لتصفية الصراع، تقاليدنا العربية أساسها أن القوة تساند الحق، وأن الحق دون قوة لا موضع له، وظلت تقاليدنا بهذا المعنى حتى الربع الأول من القرن العشرين، أيضا الثورة العربية ورغم فشلها خلال الحرب العالمية الأولى قامت على أساس انتزاع بطريق القوة الحقوق المشروعة القومية، الثورة المصرية التي حمل لواءها حزب الوفد جاءت لترسخ في مفاهيم هذه المنطقة أسلوب البرجوازية في التعامل مع المشاكل المصيرية وما سمته في حينها مائدة المفاوضات، ومنذ تلك اللحظة ترسب المفهوم وأضحى إحدى خصائص السياسة العربية، وهنا تبرز خطورة الخلط بين المشاكل المصيرية وغيرها: الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية مشكلة مصيرية لا تقبل إلا القوة ولا يمكن أن تنتهي إلا من خلال القوة.
توظيف المعلوماتية لصالح الأمن القومي العربي
يبين ربيع أن منهجية النظم الحاكمة في النظر إلى الأمن القومي العربي من خلال الرؤى الشخصية، والهوى الكامن في بقائها في ممارسة التسلط عليه، ليست جديرة بالقيام بمسؤوليتها القومية ولا الوطنية المحدودة، حيث افتقدت هذه الأنظمة استخدام التطورات الحديثة في الحصول على المعلومات اللازمة لأمنها القومي وتوظيف تلك المعلومات بما يخدم الممارسة الواقعية لحماية هذا الأمن، ليس بطرق دفاعية وإنما بطريق المبادأة والمبادرة كما عرف التاريخ العربي سابقًا.
إن غياب مفهوم الأمن القومي العربي عن الممارسة الحقيقية يرتبط بظاهرة نظامية تعبر عن حالة حقيقية من التخلف المطلق في عالم لم يعد يعرف إلا التقدم التكنولوجي ونقصد بذلك عدم وجود أجهزة التخطيط والتدبر وجمع المعلومات، المنطقة العربية بأجمعها لا تعرف جهازا واحدًا جديرًا بالاحترام للتخطيط السياسي، والتخطيط السياسي يفترض متغيرات ثلاثة: أجهزة قومية لجمع وتنقية المعلومات، كفايات متخصصة لتحليل البيانات، عقليات خلاقة البناء في إطار التحرك والتعامل، الأولى لا يكفي بخصوصها مجرد جمع القصاصات الصحفية أو ما في حكمها بل يجب أن تملك مسالكها السرية والمستقلة لجمع المعلومات ولتنقية تلك المعلومات، ولإبراز نواحيها المتعلقة بالمصالح القومية الذاتية، هذه المهمة التي قد تبدو سهلة لأول وهلة إنما تعبر عن أكثر أنواع التعقيد في العالم المعاصر.
المعلومات والتخطيط السياسي
إن المعلومات تمثل اليوم كما رهيبا في حاجة إلى نظم متقدمة لجمعه ولإمكانيات الاستفادة به، أضف إلى ذلك أن أهم المعلومات ليست تلك المنشورة والمتداولة بل أن هناك معلومات منشورة يتم تسريبها عمدًا لإيقاع صاحب المصلحة في الخطأ وهذا يفسر أهمية الخبراء المتخصصين في تفسير المعلومات، عليهم أن يُعيدوا كتابتها وأن يعيدوا تحليلها بما يسمح بإبراز المفاصل الحقيقية للإعلام وللمعرفة بالعدو الخارجي، بل أن عملية الجمع يجب أن تتجه إلى الصديق قبل العدو حيث نعيش عالما فيه كل صديق اليوم قابل لأن يكون عدو الغد، أيضا القدرة على التدبر والتصور وبناء خطة التعامل لا يغنى أي تقدم فني أو تكنولوجي عن النبوغ والقدرة الخلاقة، كيسنجر بمفرده استطاع أن ينقل السياسة الخارجية الأمريكية من مرحلة الفشل المطلق في المنطقة العربية إلى مرحلة النجاح الذي لا حدود له.
الزعيم “الأوحد” الزعيم “الأفشل”
يربط ربيع بين استبداد الحاكم العربي وبين فشله في ممارسة التخطيط السياسي لوطنه وأمته التي ينتمي إليها بحكم عرقيته (العروبة) ودينه (الإسلام) وبحكم أمنه اللازم الارتباط بها، إن كل حاكم يرى في ذاته الزعيم “الأوحد” هو ذاته الزعيم “الأفشل”، وتجربة الزعامات العربية الحديثة والمعاصرة خير استقراء لهذه الفرضية.
إن هذا النقص في أجهزة التخطيط وجمع المعلومات يرتبط بمتغير رابع وهو سيطرة شخصية القائد الأعلى على صنع السياسة الخارجية، السياسة العربية هي سياسة أفراد قلائل هم وحدهم – أي الرجل الأعلى في كل دولة عربية- الذين يصنعونها، وهم تعودوا ألا يقبلوا نصيحة أحد وألا يسعوا لأي مشورة، الإطار الذي يحيط بهم خلق فيهم القناعة بالنبوغ وهم أبعد الناس عن تلك الصفة، وهكذا جاءت السياسة العربية تعبيرا عن اندفاع وسطحية إزاء مشاكل تفرض بطبيعتها التدبر والعمق والتخصص، يزيد من الخطورة أن العالم العربي لأول مرة في تاريخه الحديث والمعاصر يواجه القوى الكبرى في مواجهة الند للند ويتعامل مع الصهيونية بما لها من خبرة وتقاليد، وهكذا أضحى يكاد من المستحيل الحديث عن سياسة عربية بحيث يمكن القول إننا نعيش فترة سياسات للقيادات العربية تتغير بتغير شخص الحاكم بل تخضع لأهواء ومزاج الحاكم، كيف نستطيع تصور ذلك الانقلاب الذي حدث في السياسة المصرية أو ذلك التطور العنيف الذي نشاهده في علاقة السياسة السعودية بنظام البعث العراقي دون أن ندخل في الاعتبار هذا المتغير القيادي؟
السياسة العربية ليست تعبيرًا عن المشاركة الشعبية
ويضيف حامد ربيع مظهر آخر يتشابك مع مظاهر ضعف مفهوم الأمن القومي العربي، كما يُعد من جملة الأسباب كذلك، وهو غياب “المشاركة الشعبية” في السياسة العربية الداخلية وكذلك الخارجية، حيث أنها لم تعد مؤشرًا لحركة النظم العربية وتحولاتها، رغم المكانة التي ينبغي أن تشغلها في هذه السياسة كما تشير الكتابات التنظيرية من ناحية وواقع وتجارب الشعوب من ناحية أخرى، حيث تمثل العمود الفقري لأي تخطيط سياسي أيًا كان نوعه.
إن السياسة العربية ليست تعبيرا عن أي مشاركة شعبية، هذه الناحية تبدو خطورتها عندما نتذكر أننا نعيش الربع الأخير من القرن العشرين في مرحلة تطور وحدوي وبناء إنمائي حيث تواجه الجماعة العربية مشاكل قومية مصيرية، إن جميع أبعاد التطور السياسي المحيطة بالمجتمع العربي تفرض [استعادة] الإرادة القومية الواحدة الواعية المتكتلة حول القيادة الشعبية القادرة على أن تعكس آمال وآلام تلك الأمة بحساسية مطلقة وأمانة صادقة، العالم العربي يجب أن يتحول إلى أمة محاربة…وليس هذا التطور بضروري ولازم فقط لوضع حد لمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي ولاستئصال الوجود الأجنبي في الوطن العربي بل إنه حتمية لا مفر منها لحل أي مشكلة من مشاكل الوطن العربي، والأمة المحاربة التي تعني تقاليد الجهاد في أنقى صورة تفترض المشاركة الشعبية، وكيف يمكن تصور تحقيق تنمية حقيقية دون مشاركة شعبية وكيف يمكن تقبل مفهوم التطور الوحدوي في العالم المعاصر دون الرضاء الشعبي الكامل الذي سوف يكون السند الحقيقي للطبقات المحكومة ضد القيادات الحاكمة؟ وهل نستطيع تصور القيادات الحاكمة الحالية تسعى لبناء الدولة العربية الواحدة؟ ثم كيف نستطيع مواجهة قضايا مصيرية كالصراع العربي حول إرادة الجهاد المطلقة دون تعميق لمفهوم المساندة والتماسك السياسي؟
مربع القوة العربية أين ذهب؟
يتساءل ربيع عن القوة العربية وأين ذهبت في الواقع الدولي والإقليمي ويجيب: إن القوى الحقيقة التي تعبر عن الإرادة العربية في منطقة الشرق الأوسط هي أربع: مصر بكثافتها البشرية، والعراق بقدرتها المادية، ثم سوريا بقناعتها الفكرية وأخيرا الوزن الفلسطيني بثورته الثابتة، لقد استطاع خصوم المنطقة أن يقضوا على القوى الأربع، فمصر خرجت من الصف العربي وأغرقت في مشاكلها الداخلية، والعراق تم استنزافه اقتصاديا وسوف يتعين عليه أن يواجه خلال عشرين عاما من المحن ما لم يسمح له بأن يكون قوة فاعلة، والقيادة الفلسطينية قد تم تطويقها وتدميرها ثم اختراقها لتتحول إلى حديث الصالونات، وسوريا لم يعد لها وزن حقيقي ودورها أيضا آت لا ريب فيه وعلى كل فهي قد فقدت كل قدرة على أن تتصدى لأي مواجهة فكرية أو عقائدية.
________________________________
(*) أستاذ أصول التربية المساعد، جامعة دمياط.
(**) حامد ربيع: نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط، القاهرة، دار الموقف العربي، 1984م.