من كان يُصدق أن دولة مثل النمسا التي اعترفت بالإسلام منذ عام 1912م، وضربت المثل في الحرية والتسامح والتعددية، أن تنقلب الحال فيها بين عشية وضحاها بقانون جديد «قانون الإسلام» عام 2015م، تحت غطاء فضفاض، فيما أُعلن «مكافحة التطرف الإسلامي»، ليحظر أي دعم خارجي للمساجد، ويقصد بذلك المساجد التي تدفع رواتب العاملين فيها مثلما تفعل تركيا، وبعد عامين (2017م) يُصدر المستشار النمساوي «سيباستيان كورتس» قراراً بترحيل 40 إماماً مع عائلاتهم وإغلاق 7 مساجد، الأمر الذي أثار سخطاً واسعاً في أوساط مسلمي النمسا وأوروبا وتركيا خاصة، ثم يعقبه قرار عام 2018م يقضي بمنع تغطية الوجه، ثم يأتي من بعد ذلك قرار آخر بمنع الحجاب في رياض الأطفال؟!
من يُصدق أن حزب البديل في ألمانيا يحتل المرتبة الثالثة في البرلمان المركزي عام 2017م، ولمَّا يمضِ على تأسيسه حينها أكثر من 4 سنوات؟!
من كان يتصور أن دولة مثل السويد كانت مضرب المثل في التعددية والتسامح، أن يظهر فيها حزب يميني متطرف هو «الديمقراطيون» الذي احتل المرتبة الثالثة في انتخابات عام 2018م؟! وعلى المستوى المحلي والإقليمي لم يعد من الحرج أن يتعامل السياسيون مع الشعوبيين، بل هناك مزايدات من بعض الأحزاب لمَّا رأوا أن أجندة اليمين التي تستهدف المسلمين والمهاجرين رابحة، فلماذا ينأون عنها ويخسرون؟!
تلكم لعبة السياسة التي تدور مع المصالح أينما دارت، وتقلبات المجتمعات ومكر الليل والنهار.
نعم أوروبا ليست شيئاً واحداً، وهناك اختلاف بين دولة وأخرى في تنامي هذه الظاهرة وحجمها، لكن ليس هناك دولة الآن بعيدة عن مرمى الخطاب المتشدد حيال المسلمين والأجانب عامة.
والسؤال الأهم: لماذا تنامت أحزاب اليمين واشتد عُودها؟
يقتات اليمين المتطرف بالساحة الأوروبية على مجموعة من العوامل والظروف والموجهات، وتلكم أهمها:
1– تردي الأوضاع الاقتصادية:
إنْ كان بعض العرب قبل الإسلام قتلوا أبناءهم خشية العوَز والفاقة، فإن اليمين المتطرف ينسج على نفس منوالهم في رفض وجود قوافل من اللاجئين الفارين من جحيم الحروب والمجاعات، ومن ثم نجد الصيحات التي تصرخ بها حناجر مثل «مارين لوبان»، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي، أن «فرنسا للفرنسيين والوظائف لأهل فرنسا»، وعلى نفس الوتيرة يعزف زعيم حزب الشعب في النمسا المستشار «سيباستيان كورتس»، وزعيم حزب ليفا الإيطالي «ماتيو سالفيني»، وحزب البديل في ألمانيا، والديمقراطيون في السويد وغيرهم ممن تشابهت خطاباتهم وأجندتهم السياسية.
وتؤكد الباحثة «ريناس بنافي»، في دراسة لها عن صعود اليمين المتطرف المنشور على موقع المركز العربي الديمقراطي، أثر العوامل الاقتصادية في صعود حركات اليمين بأوروبا فتقول: «ترجع الأسباب الاقتصادية التي أدت إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008م، التي أدت لانتشار البطالة والركود الاقتصادي، ومع زيادة الهجرة، بدأ بعض الأوروبيين ينظرون للمهاجرين كمزاحمين لهم في وظائفهم خاصة المسلمين، وهنا ظهرت دعوات للتضييق على المهاجرين، ودعوات عدائية ضدهم، كما تسببت الأزمة الاقتصادية في صعود اليمين في مختلف أنحاء العالم الغربي، وزادت شعبية اليمين المتطرف في فرنسا إلى 25%، وفي الدنمارك 23%، وكذلك النمسا 20%».
2– الحوادث الفردية:
لم تغادر حادثة مدينة كيمنتس في سبتمبر 2019م شرقي ألمانيا الذاكرة بعد، حينما قُتل ألماني نتيجة حادثة شجار فردية مع أحد الأفراد المهاجرين؛ مما أشعل موجة غضب عارمة في الوسط اليميني وأنصاره، وعلى الرغم من أنها حادثة فردية، فإن دعاة الكراهية وظفوا الفرصة في تأجيج وتأليب الرأي العام ضد المهاجرين، وخرجوا في مظاهرات حاشدة وعلى رأسها زعماء حزب البديل، وانطلقت الصيحات المجنونة تنادي بطرد الأجانب والمسلمين، ونجم عن الاحتجاجات صدامات وأعمال عنف، وعلى الرغم من جهود ومساعي الدولة وكثير من مؤسساتها في مواجهة هذه العنصرية الطافحة بإقامة حفل بالمدينة حضره 65 ألفاً للوقوف ضد العنصرية –وفقاً لما نشره موقع « دويتشه فيله”- ورغم ذلك لم يهدئ من روع المسلمين حتى تخلَّف كثير من الأطفال عن مدارسهم في هذه الأيام خوفاً على حياتهم، وتساءل كثير من السوريين: لقد هربنا من جحيم الحرب والدمار وجئنا إلى ألمانيا البلد الذي فتح لنا أبوابه؛ فأين نذهب؟ نريد أن نعيش بسلام، ما الذي جنيناه حتى ندفع ضريبة حدث فردي؟
مثل هذا الحدث وغيره مما يقع من بعض المهاجرين يتم تناوله والتعامل معه من بعض الدوائر الإعلامية على أنه أصل وحالة غالبة على كل المهاجرين؛ مما يؤدي إلى شحن الرأي العام ضدهم، ويفضي إلى اعتداءات كثيرة مادية ومعنوية.
3– فزَّاعة أسلمة أوروبا:
لا تخطئ العين حالة الحضور الإسلامي في أوروبا والغرب عامة، التي تتمثل في عدد المسلمين الذي يشكلون نسبة تصل إلى 7% في فرنسا، و5% في ألمانيا، وتصل في بعض المدن مثل برمنجهام ببريطانيا إلى أكثر من 30% تقريباً، فضلاً عن النمو في المواليد عند مسلمي أوروبا، وبناء المساجد وحالة التدين في أوساط المسلمين عامة، تلك الحالة العامة يستثمرها اليمين المتطرف في خطابه التحريضي التخويفي مما سماه «أسلمة أوروبا».
والسؤال: هل نريد أسلمة أوروبا؟
أود التأكيد أننا أصحاب خطاب واحد، وما نقوله في الغرف المغلقة هو ما نردده على الملأ، وخطابنا وسياستنا الإستراتيجية التي نتبناها في كافة مؤسساتنا في أوروبا هي أننا مسلمون أوروبيون ننتمي لهذا الوطن الأوروبي الفسيح، ونعمل لخيره، ونؤمن أن التعدد الديني والثقافي والعِرقي من مكامن القوة للمجتمع، وصمَّام أمان للتماسك الاجتماعي، كما أننا نحمل رسالة الرحمة العالمية.
نحن ننادي بضرورة ترسيخ قيم الحرية والعدالة والتسامح والتعددية الدينية والثقافية، تلك القيم التي ناضلتْ من أجلها الأقطار الأوروبية عقوداً مديدة، وقدمت في سبيل شروقها على أرضها ثمناً باهظاً، ومن هنا؛ فإن دورنا أن نحمي جميعاً تلك القيم التي نريد أن يستظل العالم بظلها على قاعدة واحدة دون تمييز على اعتبار اختلاف الدين أو الدم أو اللغة أو العرق.
والسؤال أيضاً: هل يخدم بعض المسلمين أجندة اليمين المتطرف؟
يبدو أن التطرف يَشُدُّ بعضه بعضاً وإن اختلفت الغايات والوسائل، بيْد أن كل طرف يقدم للآخر وهو لا يدري خدمات مجانية على طبق من ذهب، وكلما غلا أحدهما اشتط الآخر، وهكذا يحترق العالم بالمجانين! وأنا أرصد بعض المشاهد في وسط الوجود الإسلامي فأجد ألواناً من الخطاب والمسالك في الدعوة تقدم هدايا ثمينة لليمين يعجزون عن شكرها! وتلكم بعض النماذج:
– فرحَ كثير من العنصريين بمقطع فيديو لشاب مسلم يتوعد الألمان بأن المسلمين سيكونون الأغلبية في هذا البلد، وأنهم سينقرضون!
– مجموعة من الشباب المتحمس كانوا يقفون بالعشرات في بعض المدن الأوروبية منذ سنوات -وما زالوا- يقدمون المصاحف على المارة في الشوارع العامة بطريقة استفزازية دون نظر للوضع العام المحتقن ضد الإسلام والمسلمين في ذلك البلد، ولو أنصفوا لتعلموا من غيرهم فنون التسويق وأساليبه الأنيقة التي تُبَلِّغ بها رسالتك دون أن تجلب عليك وعلى غيرك المتاعب.
– تنتشر من حين لآخر بعض الإحصاءات التي تبشر أوروبا بأنها على أعتاب قارة إسلامية محضة بعد عقدين أو ثلاثة، وبدون بذل جهد تدرك أن وراء بعض هذه الدراسات والإحصاءات المزعومة من يتربص بالمسلمين الدوائر، ولكن الفاجعة الحقيقية في نفر من المسلمين يطيرون بهذه المقاطع ويهللون ويكبرون ويتوسلون لأصدقائهم عبر وسائل التواصل لترويجها! بينما دعاة الكراهية من حزب اليمين يرصدون كل ذلك وهم يضحكون؛ فانظر كيف نخدم أجندة عدونا ونحن غافلون!
– بعض صور الخطاب الديني يساهم في تنامي تيار التشدد في وسط المسلمين؛ وبطبيعة الحال يزيد رصيد اليمين، فالخطاب الاستفزازي والاستعلائي والاستعدائي الذي يتورط فيه بعض الدعاة في أوروبا يجلب علينا كثيراً من العنت والحرج، ولا يتسع المقام هنا للتفصيل.
– الانحراف الأخلاقي والجرائم السلوكية التي يمارسها بعض المسلمين في الدول الأوروبية تفضي إلى تعميم صورة سلبية عن المسلمين عامة والمهاجرين الجدد خاصة، وتثير مشاعر الخوف والقلق؛ الأمر الذي يعزز مزاعم أحزاب اليمين ويرفع من رصيدها.
4– مواسم الانتخابات:
بقدر ما يشكل الوجود الإسلامي مصدر إزعاج لقوى وأحزاب اليمن المتطرف في أوروبا، بقدر ما يُفيده وينفعه ويرفع أسهمه، ذلك لأن تلك القوى تمتطي ظهر المسلمين لحصد أصوات الناخبين، حتى دنت بعض الأحزاب التي لم يكن لها عهد بالخطاب المتشدد ضد المسلمين –من خطاب اليمين المتطرف- فلما وجدوا أن انتقاد المسلمين والهجوم عليهم والتجاوز بحقوقهم وسيلة لحجز مقاعد أكثر أو مناصب أعلى لم يضيعوا الفرصة، ولا عزاء للضعيف.
هذا ما نجده، حينما قامت النمسا بحظر الحجاب على الفتيات برياض الأطفال في أكتوبر 2018م، عزف على نفس اللحن وزير شؤون الاندماج بولاية شمال الراين ويستفاليا الألمانية، «يوآخيم شتامب»، حينما طالب بحظر ارتداء الحجاب للفتيات تحت سن 14 عاماً، الأمر الذي أثار موجة من الجدل، وقوبل بالترحيب والدعم من بعض الأوساط السياسية والتعليمية، وقوبل بالرفض من أوساط ألمانية متعددة، وَعُدَّ ذلك من قبيل الاعتداء على الحريات.
5- الأحداث الإرهابية:
لقد استقر في الوعي الجمعي لكثير من الأوروبيين الارتباط الشرطي بين الأحداث الإرهابية والمسلمين، حتى غدا المسلمون أنفسهم في أوروبا في موقع المدافع إذا وقعت الواقعة في مدينة أوروبية، فإن حدث اعتداء إرهابي سارعنا بنفي علاقته بالإسلام والأديان، وكأنَّ على رأسنا ما يجب أن نتحسسه.
لا ريب أننا أول من يرفض العدوان على الدين أو النفس أو المال أو العرض، لكن طريقة تناول كثير من وسائل الإعلام لأي حدث إرهابي جعل المواطن الأوروبي ينظر للمسلم بعين الشبهة، ولقد عايشنا أحداثاً إرهابية أليمة وقعت في ألمانيا، وانتاب بعض المسلمين الخوف على أنفسهم من بعض ردود الفعل الغاضبة والنفوس المشحونة، بيد أن الإنصاف يقتضي أن نقول: إن مواقف الدولة الرسمية آنذاك، ممثلة في المستشارة «ميركل»، وكثير من الوزراء، كانت على مستوى رفيع من المسؤولية، فقد رفضت المستشارة وغيرها أن يُتهم اللاجئون بالإرهاب أو العنف أو المساس بحقوقهم.
خيارات مسلمي أوروبا
رسالتنا الإصلاحية تقتضي منا الاهتمام بالشأن العام الأوروبي، وأن نعمل لخير المجتمع كله، وأن نتعامل مع الخطر الذي يهدد السلام الاجتماعي بروح المسؤولية، فنحن لا ننطلق من خلال مصالح مسلمي أوروبا فقط، بل تهمنا مصالح المجتمع كله، حيث إن خطاب اليمين وأجندته يهددان قيم المجتمع بأسره.
علينا أن نؤكد أنَّ الأصل في العلاقات الإنسانية هو الحب والرحمة والتسامح، والاعتراف بالمخالف في الرأي والدين واللون، وأنَّ القلب الذي يسكنه الحب يسع الناس جميعاً، تلك المعاني وهذه القلوب الواسعة تمثل أغلب أهل الأرض الآن.
إن كثيراً من مسلمي أوروبا يعيشون في حدود يومهم، وهم في شُغُلٍ عن هموم المجتمع وتحديات المرحلة الراهنة، وإذا دققنا النظر في مستوى تفاعلهم مع مؤسسات المجتمع سنقف ساعتها على أحد أسباب صعود وتنامي ظاهرة التطرف اليميني، ولا أعتقد أن نسبة تفاعل الآباء مع المؤسسات التعليمية بالمستوى المأمول، بدءاً من الحضانة والمدرسة، ومدى التفاعل مع أنشطتها المتعددة التي يمكن للمسلم أن يحقق فيها حضوراً وتأثيراً.
وإذا يممنا وجهنا شطر المساجد المترامية في كل مدينة حالياً، سنجد أيضاً الحاجة الماسَّة لتفاعل كل مسجد مع جيرانه وقيامه بدوره الحضاري المنوط به مع محيطه.
نعم هناك مبادرات كثيرة الآن من المؤسسات الإسلامية في أوروبا مع مؤسسات المجتمع الرسمية والمدنية، لكننا بحاجة لبذل المزيد من الجهود، وعلينا أن نعلم أن الفرص المتاحة أكبر من التحديات والصعوبات، وأن كل مساحة نتركها ولا نُفيد منها في التعريف بأنفسنا ورسالتنا فإننا نتركها لدعاة الكراهية.
وما زال كثير من المسلمين في أوروبا يعتبرون المشاركة السياسية من نافلة الأعمال، وأياً كانت أسباب ضعف المشاركة فإن علينا أن نتجاوزها.
يؤسفني أن بعض الآراء المحرمة للمشاركة في المشهد السياسي بأوروبا ما زالت تضعف من مشاركة المسلمين، وكأن بعض المسلمين يتصدقون بأصواتهم على أحزاب اليمين المتطرف، والخاسر الأكبر هم المسلمون قبل غيرهم، فلم يعد هناك بُدٌّ من المشاركة السياسية الواعية لمسلمي أوروبا.
لقد بلغ مسلمو أوروبا رشدهم، ولم يعد من المقبول أن يقرر عنهم غيرهم، فما أضرهم مثل الفتاوى العابرة التي لا تراعي واقعاً ولا تدرك حجم الصعوبات والإشكالات القائمة، وعلينا أن نعتمد المرجعيات الفقهية المعتبرة على الساحة الأوروبية، وعلى رأسها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، أكبر مرجعية إفتائية لمسلمي أوروبا، وقد بحث المجلس منذ ما يقرب من عشر سنوات المشاركة السياسية وقواعدها وضوابطها، وأصدر بحوثاً وفتاوى وكتباً رصينة في هذا الجانب المهم.