نتناول في الحلقة الرابعة والأخيرة من “كفاحية عالِم: حامد ربيع في مواجهة انهيار أمةٍ”، مفهومين رئيسين من المفاهيم التي جاءت ضمن منظومته المفاهيمية التي أبدعها حامد ربيع في مسيرته الفكرية الإصلاحية، وهما مفهوما الإسلام “المكافح”، ومفهوم “الولاء”.
من المفاهيم التي نحتها حامد ربيع مفهوم “الإسلام المكافح”، ويشير إلى تلك الوظيفة الإصلاحية للإسلام في الواقع الإنساني عمومًا، ويسحب تلك الوظيفة على الواقع السياسي العربي المأزوم في داخله وخارجه، ويتضمن هذا المفهوم ثلاثة مكونات تعبر عن دلالته الوظيفية، وهي: الإصلاح، واكتشاف الذات، واستعادة الإرادة الواعية.
يقول حامد ربيع في ذلك المفهوم: إن مفهوم الإسلام المكافح والإسلام كحركة تحرر في العالم المعاصر ينطلق من ظواهر ثلاث لا بد وأن تتكامل ليتكون من مجموعها نسيج واحد للتعامل الحركي: إصلاح، اكتشاف للذات، تأكيد للإرادة الواعية، لا بد من إصلاح النظام السياسي الإسلامي لا فقط كأسلوب للتعامل بين الحاكم والمحكوم، بل كعقيدة من حيث التصور والإدراك للنظام الاجتماعي، بل إن هذا الإصلاح يجب أن يتسع ليشمل إعادة كتابة الفقه، قفل باب الاجتهاد أضحى لغوًا لا معنى له، والبحث عن الذات واكتشاف حقيقة تلك الذات على المستوى الجماعي والفردي، العالمي والقومي، يأتي فيكمل ذلك العنصر الأول لأنه يعني اكتشافاً للأصالة وتمكيناً للتاريخ القديم من أن يترابط مع التاريخ المعاصر.
إن عملية إحياء للتراث ليس بمعنى نبش القبور للبحث عن الأصنام، وإنما دفع بدم جديد في جسد قادر على الحركة، إنه يعني تجديدًا للذات التاريخية في مواجهة ذلك الآخر الذي هو الغرب الاستعماري أولًا والكاثوليكية الاستفزازية ثانية والماركسية ثالثًا، كل هذه الحقائق لا بد وأن تقود إلى تأكيد الذات الذي يعني المعرفة بالوظيفة الحضارية.
وهنا يناقش ربيع بُعدًا آخر لمفهوم “الإسلام المكافح”، وهو الوظيفة الحضارية للإسلام الذي يقوم بتنظيم حركة الحياة ونشاطها الرئيس ويؤسس لنظامها القيمي الذي تتحرك فيه وبه؛ “فالإسلام هو المنظم لحركة الرفض، وهو المحور لأبعاد الوظيفة الحضارية، وهو الجوهر الذي لا بد وأن ننطلق منه العروبة القومية، وهو بعبارة أخرى أكثر دقة وتحديدًا هو الخالق لنظام القيم الذي يجب أن يسود تطوراتنا السياسية”(1).
إسهامات الإسلام في الإصلاح السياسي
فيما يتعلق بإسهامات الإسلام المكافح في إصلاح الواقع السياسي، ينطلق ربيع من مبدئية الانفتاح الحضاري الذي هو أهم خصائص الحضارة الإسلامية، التي جعلها تنفتح مع الحضارات السابقة عليها والقائمة في وقتها، ثم يخرج من بينها ممارسات جديدة تتفاعل مع ما تحمله من مبادئ ونظام قيمي قادر على التفاعل والانفتاح والاستفادة والإبداع، إن الخبرة الإسلامية لم تكن خبرة مغلقة؛ لقد تعاملت مع الغرب والشرق، تعاملت مع الحضارات الهندية والصينية والفارسية، ومارست الارتباط الفكري والحركي بالحضارات اليونانية والرومانية والكاثوليكية، وهي في ذلك لم تظل إزاء جميع هذه النماذج للوجود تقف موقف السلبية وعدم الاهتمام، ولكنها خلقت قنوات اتصال بينها وبين هذه الحضارات، إن منطق الوجود يفرض مبدئية مهمة في مثل هذا التفاعل وهي: لا تعامل دون تأثير أو تأثر(2).
العلاقة بين الحاكم والمحكوم
من الممارسات التي تميزت بها الحضارة الإسلامية في المجال السياسي، ما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويشير ربيع في ذلك إلى عدة خصائص أهمها(3):
أولًا: العلاقة مباشرة لا تعرف الوسيط؛ إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في التقاليد الإسلامية هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف مساواة، لا يفصل أيًا منهما عن الآخر أي عقبات اجتماعية أو نظامية.
ثانيًا: ولكنها علاقة تابعة، تنبع من مفهوم العلاقة الدينية وتتحدد بها: علاقة المسلم بالكتاب وتعاليمه هي التي تُحدد خصائص العلاقة السياسية.
ثالثًا: وهي لذلك علاقة كفاحية: إن مفهوم الدعوة ونشر تعاليم الإسلام الذي ينبع من طبيعة العلاقة الدينية يفرض على المواطن الدفاع عن المثالية الحركية وبجميع الأدوات والوسائل.
رابعًا: وهي لذلك علاقة مطلقة لا تعرف التمييز ولا التنوع، مفهوم التنوع الطبقي بمعنى التدرج التصاعدي لم تعرفه التقاليد الإسلامية.
إن التمييز بين الحاكم والمحكوم هو تمييز وظيفي لا ينبع لا من متغير الانتماء ولا من متغير الاستمرارية الوراثية، حتى عندما انتقل الحكم إلى التصور الفارسي لم يستطع أن يصل إلى المبالغات التي عرفتها تقاليد الحكم الأوتوقراطي (الذي يتركز في يد فرد واحد).
خامسًا: ونستطيع أن نمركز جميع هذه الخصائص حول مفهوم واحد، وهو أن العلاقة السياسية في المجتمع الإسلامي كانت تمتاز بالبساطة بحيث لم تعرف؛ لا التجريد المثالي الذي عرفته الحضارة اليونانية، ولا التركيب النظامي الذي عرفته الحضارتان الرومانية والكاثوليكية، ولا الاستيعاب المطلق الذي سيطر على نموذج الدولة القومية.
الولاء طبيعته ومنطلقاته
فكرة أخرى يناقشها ربيع وهي فكرة الولاء وطبيعة النظرة الإسلامية إليها ومحدداتها في التراث الإسلامي، وقد تعفنت تلك الفكرة في واقعنا العربي الحديث والمعاصر، حيث ارتبطت فكرة الولاء بالولاء لشخص “الزعيم الفرد” الذي حل في الدولة أو الوطن واتحد فيهما.
ويذكر حامد ربيع في ذلك: أن فكرة “الولاء” لم تعرفها الحضارات الكبرى القديمة إلا بمعنى العلاقة الشخصية التي تدور حول التبعية والخضوع، ولا ترتبط بالمفاهيم السياسية أو بالقيم العقدية، ويتساءل: هل الولاء للحضارة؟ هل الولاء للحاكم؟ هل الولاء للمصلحة؟ أسئلة كثيرة لا يزال الفقه السياسي يقف منها موقف التردد وعدم القدرة على المناطحة وتخطي العقبات العلمية بخصوص بناء إطار متكامل لتحليل جزيئاتها، برغم ذلك فإن متابعة العناصر المختلفة في التراث الإسلامي وتجميعها في شكل بنيان متكامل قد يسمح لنا بأن نؤصل هذه الظاهرة بحيث نبني الإطار الفكري لمفهوم الولاء، لا فقط كما عرفته وعاشته الحضارة الإسلامية ولكن أيضًا كما يجب أن يجرد في لغة التنظير السياسي المعاصر، وبرغم أن الحضارة الإسلامية لم يقدر لها المفكر الذي يصوغ ذلك المفهوم، وبرغم أن الفكر المعاصر لم يستطع بعد أن يفسر ظاهرة الولاء بلغة العصر الذي نعيشه(4).
يحدد ربيع إطار فكرة الولاء في ضوء بحثه وتنقيبه في النظام القيمي للتراث السياسي الإسلامي فيما يلي:
أولاً: الولاء للأمة وليس للنظام.
ثانيًا: الولاء علاقة تربط المواطن بالأمة؛ ولذلك هي تربط المسلم كما تربط غير المسلم طالما كان هذا الأخير يعيش في داخل تلك الأمة.
ثالثًا: الولاء لا يتعارض مع الثورة أو مقاومة الطغيان، بل إن الاستجابة إلى الثورة ورفض الطغيان هو تأكيد لعلاقة الولاء.
رابعًا: الولاء لا يعني الإكراه ولا يقبله؛ “لا إكراه في الدين”.
_____________________________________________________
(1) حامد ربيع: نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط، ص21.
(2) حامد ربيع: مدخل إلى التراث السياسي الإسلامي، ج1، تحرير وتعليق: سيف الدين عبدالفتاح، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ص 107.
(3) المرجع السابق، ص 111.
(4) المرجع السابق، ص 200.
(*) أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط.