دخل علينا العام الميلادي 2020م بما يحمل في طياته من أحداث سبقته في العام الذي قبله، وهو يتحملها الآن بين طياته، تلكم الأمواج التي تعج بالعالم الإسلامي، سواء كانت أمواجاً سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم تقنية، فالحوادث والمستجدات في عالمنا الإسلامي لا تنقطع؛ إفرازاً للعولمة وتوابعها، وذلك التصارع بين القوى العظمى بما تمثل من قوة الفعل والقرار، وبما يقابله من وهن وضعف الدول الإسلامية على المستويين: الرسمي والشعبي، وضحالة ووهن دور الفقهاء في ريادة المجتمعات الإسلامية نحو البصيرة ثم اليقظة ثم النهضة، وصولاً إلى الانتقال من مرحلة الوهن إلى مرحلة القوة، ومن مرحلة الإملاء إلى مرحلة الذاتية والاستقلال الراشد.
إن من أخطر الأمور التي تمر وما تزال على حالها ذلك الدور- أو إن شئت قل: اللادور- للفقهاء في مجتمعاتهم، فالمتصدر للمشهد الإسلامي حركات وجماعات؛ دعوية تحتاج إلى مزيد من البذل والعطاء، والوعي للمشهد الحضاري الذي نعيشه، أو حركات وجماعات سياسية تسعى نحو الإصلاح السياسي وتصدر المشهد الحاكم في بعض البلاد، وغالبها باء بالفشل، ولم يبرز للفقهاء دور في ترشيد تلك الحركات إلا على استحياء، أو أشد منه خفاء، وقد كانت الأمة عبر قرونها الماضية تسلم زمام القيادة الاجتماعية لعلمائها الفقهاء دون غيرهم، وهذا لا يعني تصدر الفقهاء للمشهد السياسي وتزاحمهم للساسة، كلا، بل هو دور الاستشارة والوزارة والاستنارة والإبصار والاستبصار، والتوجه والتوجيه نحو تحقيق تلك المقاصد العليا لديننا الحنيف في مجالات الحياة، بما فيها المجال السياسي، الذي يترنح بين علمانية تنكر الدين أو تتنكر له، وبين حركات وجماعات ليس عندها القدرة على قيادة المجتمع، بما ترنو إليه، وغالب أمرها إما أنه لا مرجعية للعلماء فيها، بل هو للحراك السياسي والنشاط الشبابي، أو هي مرجعية عقيمة لا تعرف لإنجاب الحلول الذكية في الأمواج المتلاطمة سبيلاً للنجاة، فهي بين جمود على التراث مستجيراً، يشكو إلى الله سوء استعماله، ويكاد ينطق يا ناس ما هكذا أنزَل، فواقعي غير واقعكم، عليكم بالمنهج لا بالفروع والمسائل، وبين انفتاح متفلت من أصول الشريعة، غير مفعل لقواعد الترجيح بين المصالح والمصالح، أو المفاسد والمفاسد، أو المصالح والمفاسد بما قرره كبار علماء الأمة، وهذا الترجيح بين المصالح والمفاسد في الجملة هو جوهر السياسة الشرعية، وإن كان هناك وعي به على مستوى التنظير، لكنه بعيد النجعة على مستوى التنزيل، وكل يدعي وصلاً بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاك..
التحديات في المجال السياسي:
فمن التحديات الفقهية على المستوى السياسي للفقهاء أنهم انقسموا فرقاً شتى، فمنهم من مال نحو السلطان حين مال صواباً أو خطأ، فولى وجهه شطره، يبتغي بذلك الدار الدنيا وزينتها، ومنهم من مال إلى هوجاء العوام والتخبط دون روية أو فقه أو إدراك للمآلات، أو إعمال للموازنات، لبس ثوب الفقيه الشجاع، يظن نفسه العز بن عبدالسلام أو النووي كما كانا مع السلاطين، وهو أبعد ما يكون عن منهجهما، وإنما هو المنهج الشعبوي الذي يرضي الناس، يعينه في هذا ما يراه من ظلم بعض الحكام، ناسياً أن الفقيه الحق هو الذي لا يميل إلى العوام كما لا يميل إلى الحكام، بل هو ميزان عدل وقسط، ناصح للحاكم والمحكوم، بما أنزل الله في كتابه من البينات الواضحات، وما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكم البليغات، وفريق ثالث آثر السلامة بالسكوت والركون، راضياً بأقل الإيمان رفضاً بالقلب، وفي هذا الخضم هناك ثلة قليلة ممن رزقوا الفهم والوعي، لكنهم كمن ينادي في سوق علت فيه الأصوات فلا أحد يسمع لهم، ولا يعرف رشد رأيهم إلا بعد وقوع البلاء.
إن أهم التحديات الفقهية هو إيجاد منهج وميزان في فقه السياسة الشرعية يضبط حركة الاجتهاد الفقهي للفقهاء المعاصرين في القضايا المستجدة، كما أنه يضبط الحركة السياسية في المجتمع المسلم.
التحديات في المجال الاقتصادي:
وفي المجال الاقتصادي ومع تلك الأزمات الاقتصادية المتتالية لم ينجح الفقهاء في إيجاد حلول فقهية ترشد الناس نحو الخروج من تلك الأزمات، ويرى الناس الإسلام منهجاً للحياة يعينهم على حل مشكلاتهم صغرت أو كبرت، فما زال الترقيع الفقهي هو العنوان الأبرز في كثير من القضايا الاقتصادية، بدءاً من عدم الوعي بمعنى الاقتصاد الإسلامي بمدلوله الشامل من خلال الموارد والتنمية وتوزيع الثروات وترشيد الاستهلاك والاستهلاك الأمثل المتمثل في “الاقتصاد السلوكي”، و”الاقتصاد المعرفي”، وعدم حصره في فقه البيوع والمعاملات المالية التي تكاد تنحصر في فقه الصيرفة، التي تكاد تنحصر في قضايا التمويل، مما يعني أن تجربة الاقتصاد الإسلامي عامة وتجربة المصارف الإسلامية خاصة حادت –شيئاً ما- عن الطريق الذي رسمه الرواد الأوائل، وأصبح داعي المواكبة والمسايرة للاقتصاد التقليدي والعالمي هو المحرك الرئيس، فبدلاً من التمويل المحرم الذي هو الربا، قدمنا للناس التمويل الحلال، دون إدراك بخطر حصر غالب المعاملات المالية والمصرفية في التمويل، حتى إن كثيراً من المراكز التي تعنى بهذا الجانب سمت نفسها “الاقتصاد الإسلامي والتمويل”.
ورغم خطط التنمية التي تعلن عنها الدول في السنوات القادمة، لم نجد من علماء الاقتصاد الإسلامي من يقدم خطة عمل أو منهجاً مقترحاً بناء على رؤية وفلسفة الاقتصاد في الإسلام، وإن لم تقدم الرؤية الإسلامية فالرؤى الأخرى جاهزة للتطبيق.
التحديات في المجال الاجتماعي:
وعلى مستوى المجال الاجتماعي، ما زالت الاجتهادات الفقهية تحتاج إلى مزيد من الوعي والترشيد بما يحفظ للعائلة والأسرة والمجتمع الكيان المتماسك، وأن يتخطى دور العلماء الفقهاء الترجيح الفقهي إلى المنهج العملي القائم على الاجتهاد في الفقهي بجوهره، المستبصر للواقع المعقد الذي نعيشه، فحصوننا من الداخل مهددة ومهدمة، بفعل العولمة وما جرت وراءها من أدوات –بعيداً عن الحديث عن قصد نشأتها- لكنها في نتيجتها تأخذ المجتمع المسلم نحو الهاوية.
وقس على هذا جميع مجالات الحياة المتنوعة من الفنون والثقافة والتربية والتعليم والسياحة والفندقة والرياضة ومجال حقوق الإنسان، والعلاقات الدولية ومجال المرأة والطفل وغيرها.
المنهج أولاً:
إن الاستغراق المحدود في ترجيح حكم، أو بناء حكم جديد متفرع عن أمر قديم، مع أهميته الكبرى، إلا أنه محدودية لدور الفقهاء في المجتمع، الذي أصبح منحصراً في ترجيح رأي، أو تصويبه أو تخطئته، مما يعني أن البناء للمؤسسة الفقهية في عالمنا بحاجة ماسة إلى تحسين وإحسان، وإعادة نظر في منهج البناء ومنهج العطاء، وإدراك للمقاصد العظمى والغايات الأسمى للفقهاء في عصور الحضارة الإسلامية، مما يستلزم وعياً بمنهج السابقين للإفادة منهم في منهج اللاحقين، بل والبناء لمنهج القادمين من الفقهاء في المستقبل، وقد قرر الفقهاء في قواعدهم “تقديم الأصل على الفرع”، و”الكلي على الجزئي”، بما لا يخرم الفروع والجزئيات، بل المقصود إقامتها على أحسن الأحوال بردها إلى أصولها، لتكون (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم: 24-25).