من فضل الله تعالى على هذه الأمة، بعد اكتمال الدين، وختم النبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بعد أن أدى الأمانة، ونشر الدعوة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، واستقر أمر هذا الدين على الأصلين النيرين والوحيين الراسخين؛ كتاب الله تعالى، وصحيح السُّنة النبوية؛ أن وعدنا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، حتى يستمر خير هذا الدين، وتبقى روعة هذه الدعوة، تستثمر فوائدها، وتجني قطافها المباركة، وتعم جماليات هذه التعاليم الإلهية، حيثما كانت، وأينما حلت، وإلى كل من وصلت إليه زماناً ومكاناً وإنساناً.
جاء في الحديث الصحيح، في سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”.
من هنا نرى هذه الطبقات العالية من المجددين، وتبرز في كل قرن من القرون، وفي مساحات واسعة من الأرض، مجموعات من أفذاذ هذه الأمة، من الذين تعقد عليهم الأنامل، ويشار لهم بالبنان في رفعة منازلهم، وعلو كعوبهم؛ علماً ووعياً واجتهاداً وتقى وصلاحاً، وتضحية وثباتاً، وقد نذروا أنفسهم وأوقفوها على خدمة هذا المنهج القويم، من العاملين لهذا الدين، الذين بارك الله فيهم، عبر العصور الإسلامية المختلفة، حيث يعملون على إحياء الأمة بأنوار الإسلام، لتحيا به الحياة الطيبة، ويكون لها شرف التصدر عند الناس، عزة وكرامة وشموخ إيمان، ورفعة تقى، ومنارات صلاح، وشهادات حضارة، وقوة مجد، ومن يراجع كتب التراجم والأعلام، يقف على تاريخ هؤلاء الأخيار من المجددين الربانيين، الذين أضاءت بجهودهم أنوار الخير، من تعاليم الكتاب والسُّنة، ولعل من يطالع كتاب “سير أعلام النبلاء” للإمام الذهبي، وكتاب “البدر الطالع” للإمام الشوكاني، أو كتاب “من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة” للمستشار عبدالله العقيل، أو أي كتاب ترجم ترجمة منفصلة لبعض هؤلاء الأعلام؛ يجد صدق هذه الحقيقة، كل ذلك لتحقيق الحياة الطيبة، في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم يرحمه الله: “وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَهْلِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ.
كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَباً، وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ مَلِكُهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضاً تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ) (النحل: 30)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3)، فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. انتهى.
وهؤلاء المجتهدون المجددون، يشرحون للناس قضايا هذا الدين، ويبرزون دقائقه ورائعاته، ينفون عنه ما علق به من بدع عقدية وعبادية وسياسية وحركية واجتماعية، ويقفون في وجه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتشدد المتشددين، وغلو الغالين، وتفسيرات المنحرفين، ودعاوى الزائغين، يشرحون تعاليم الإسلام، ويبينون أحكامه، وينزلونها على الواقع بفقه دقيق، وتوازن منضبط، وشمول آسر، ويحثون الناس على الالتزام به، وتكون مناهج الحياة بكل شعبها قائمة على ضوء هذا الالتزام، تارة بالخطبة، ومرة بالموعظة الحسنة، والمحاضرة الهادفة، وفي بعض الأحيان بالقلم والكتابة.
وتكون الأنشطة المرافقة سبيلاً من سبل العمل للإسلام، وحاضرة بقوة لم تغب عن ساحة العمل، للذكر والأنثى، والكبير والصغير، والحاكم والمحكوم، في إطار العمل الفردي، وكذا الجماعي، ولكل مفردة قوانينها وقرارات العمل فيها، وتتجدد الوسائل، وتتعاضد الأدوات المنتقاة بدقة، مع فقه بالعصر واحتياجاته، وتلمس للنوازل، تمسكاً بأهداب هذا الإسلام، بوسطية واعتدال، وفهوم بعيدة عن الشذوذ والتيه، ومقررات منهجية رائدة، بعيدة عن الشرود عن الفطرة التي فطر الناس عليها، بل تعتبر رصيد الفطرة، من مقومات نجاح هذه الدعوة، والعبودية لله أولاً وآخراً، الهدف العظيم، لكل هذا، على مبدأ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
مجددو العصر الحديث
وفي عصرنا كان هذا التجديد، وكان الإمام حسن البنا، والعلامة أبو الحسن الندوي، والفقيه أمجد الزهاوي، ود. مصطفى السباعي، والعلامة السعدي، وغيرهم كثير في مشارق الأرض ومغاربها، وسطرت أدبيات في هذا الشأن، نفاخر بها، ونردد أفكارها، ونرسم معالم شعاراتها، وصدرت مجموعات من الكتب والرسائل، والخطط والبرامج، واندمجت الحركة الإسلامية في ميادين وشعب المناشط المختلفة، بناء على قانون الفهم السليم لشمول الإسلام، مع مواكبة للعصر، بآلياته واختراعاته، مثل الإذاعة والتلفزيون والتليفون، ووسائل الإعلام الأخرى، وما “السوشيال ميديا” إلا صورة من صور هذا العطاء المعرفي المعاصر، الذي استثمر في الخير، حتى يكون الناس على جادة الصواب نصرة لهذا الدين، وعملاً بهديه القويم، وعبادة لرب العالمين.
وكانت “الصحوة الإسلامية المباركة” منطلقة من هذا المنهج الرائع، والحركيات الموفقة، وكانت الصحوة شامة في جبين هذه الأمة، وحققت كثيراً من النتائج الطيبة، ومقاطع الفعل المبارك، وإنجازاتها تحتاج إلى أسفار حتى توثق هذه الحقيقة الواضحة للعيان، وهناك أفذاذ قاموا على قيادة هذا العمل ورعوه حق رعايته، وبنفس الوقت؛ فإن هذه الصحوة قد وقعت في أخطاء في بعض تفاصيل هذه المسيرة الممتلئة بالخيرات، وهذا أمر عادي، إذ لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة، ولكل عالم زلة، كيف لا وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويعتريهم ما يعتري البشر، من عوارض الخطأ والنسيان، حتى كان “فقه التقويم” من مفردات أدواتها، في تصحيح مسارها، وصار معتمداً في مؤسسات الحركة الإسلامية، ليكون التأشير على جوانب الخطأ ليتجاوز، وعلى نتوءات الإخفاق ليتم معالجة أسبابها، حتى لا تتكرر، والوقوف على جوانب النجاح لتنميته وتطويره، وبنفس الوقت لا بد من بحث جديد في آفاق المستقبل لتحقيق نسب نجاح مضافة إلى سابقاتها، فيتراكم الخير، ويكثر ويبارك بعون الله تعالى.
والأخطاء لها من يقدرها، من أهل العلم والفكر والاجتهاد، بنظر دقيق، وتوصيف حكيم، حتى لا يخلط الحابل بالنابل، والخير بالشر، والحق بالباطل، ومن ثم نقع في مربعات هدم الماضي، وننقلب على الخير كله، ونكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، بل ربما وقعت هذه الشريحة بما هو أنكى؛ فهذه إشكالية كبيرة، ومصيبة عظيمة، تتعلق بدين المرء ودنياه، ومن نواتجها أن تؤدي إلى نوع من التراجع والنكوص، والندم والحسرة، وهذا ما وقع فيه صنف (قليل وقليل جداً) من العاملين للإسلام، ممن أصابهم “كيّ الوعي”، وهنا مربط الفرس، ومعقد الفكرة.