خطوة مفاجئة أقدم عليها رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان، عبدالفتاح البرهان، بلقائه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، ليفتح بذلك جدلاً بين تجريم وتبرير الخطوة، وبين تشكيك بجدواها وتأييد.
ويعد اللقاء الذي جمع البرهان، ونتنياهو، الإثنين الماضي، في أوغندا، هو الأول من نوعه، المعلن لمسؤول سوداني رفيع بالجانب الإسرائيلي منذ استقلال السودان عام 1956.
ويبدو أن اللقاء يدشن لمرحلة تحول كبير في العلاقات العدائية بين الخرطوم وتل أبيب، إذ ظل السودان داعماً للقضية الفلسطينية، وتمسك برفضه لأي علاقة مع “إسرائيل”.
والإثنين، كشف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في بيان على “تويتر”، عن أن نتنياهو، والبرهان التقيا في أوغندا، واتفقا على “بدء تعاون يقود نحو تطبيع العلاقات بين البلدين”.
إعلان “إسرائيلي” صريح ورد سوداني حذر
والواضح أن الكشف عن اللقاء كان من نصيب “إسرائيل”، فيما قال متحدث الحكومة، وزير الإعلام فيصل محمد صالح، عقب ساعات من الإعلان عنه: إنه لم يتم إخطار الحكومة أو التشاور معها.
والثلاثاء، أصدر البرهان بياناً مقتضباً، عقب اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء، قال فيه: إنه التقى نتنياهو “من موقع مسؤوليته بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني، وتحقيق المصالح العليا للشعب”.
وأضاف: “أؤكد أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان و”إسرائيل” مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر، وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية”.
وتتضمن هذه الوثيقة محددات مرحلة انتقالية يعد مجلس السيادة أحد هياكلها، بدأت في 21 أغسطس الماضي، وتستمر 39 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وتحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”.
وتابع البرهان: “أؤكد أن موقف السودان المبدئي من القضية الفلسطينية وحق شعبه في إنشاء دولته المستقلة، ظل وما زال وسيستمر ثابتاً، وفق الإجماع العربي ومقررات الجامعة العربية”.
ويرى بعض المحللين أن تحرك رئيس المجلس السيادي بهذا الشكل يشير إلى أنه تحرك وحده في إطار مساعيه لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية.
بينما يرى خبراء أن خطوة البرهان لا يمكن النظر إليها بمعزل عن استماعه لمشورة محور الدول الداعمة لـ”صفقة القرن” الأمريكية التي تربطه علاقات جيدة بها.
وصباح الثلاثاء، كشفت صحيفة “ذي تايمز أوف إسرائيل”، نقلاً عن مسؤول عسكري سوداني رفيع لم تسمه، قوله: إن الإمارات هي التي رتبت اللقاء، وعلم به “دائرة صغيرة” من كبار المسؤولين في السودان، وكذلك السعودية ومصر.
فيما لم يصدر عن أبوظبي أو الرياض أو القاهرة نفي أو تأكيد لما أوردته الصحيفة العبرية، حتى ساعة نشر التقرير.
تجاوز للسلطة أم جريء وشجاع
وحول تقييم اللقاء بين المسؤولين السوداني و”الإسرائيلي”، تباينت الآراء والمواقف على المستويين الرسمي والحزبي، بين التجريم والتبرير.
رئيس الوزراء عبدالله حمدوك رحّب، اليوم الأربعاء، عبر صفحته على “فيسبوك”، بـ”التعميم الصحفي” الذي أصدره البرهان، مساء الثلاثاء، حول المسألة.
لكن حمدوك أكد أن “العلاقات الخارجية من صميم مهام مجلس الوزراء وفقًا لما تنص عليه الوثيقة الدستورية”، وطالب بـ”ضمان المساءلة والمسؤولية والشفافية في جميع القرارات المتخذة”.
وبدوره، ذهب “تجمع المهنيين السودانيين” إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ أدان لقاء البرهان مع نتنياهو، معتبرًا إياه “تجاوزاً خطيراً” للسلطة الانتقالية والوثيقة الدستورية.
وأعلن التجمع، في بيان، الأربعاء، رفضه القاطع “لأي مخرجات تمخض عنها اللقاء”، مشددًا على أن “موقف الشعب السوداني ودولته الثابت تاريخياً هو عدم التعامل أو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي دعماً للشعب الفلسطيني”.
وفي ردود الفعل التي صدرت الثلاثاء، قالت قوى إعلان الحرية والتغيير: إن لقاء البرهان مع نتنياهو يشكل “تجاوزاً كبيراً للسلطة التنفيذية”.
وأضافت القوى، التي تعتبر قائدة الحراك الاحتجاجي وتمثل التحالف الحاكم، أن “إحداث تغييرات جذرية في قضية سياسية بحجم قضية العلاقة مع “إسرائيل” يقرر فيها الشعب السوداني عبر مؤسساته التي تعبر عن إرادته”.
فيما اعتبر حزب “المؤتمر الشعبي” السوداني أن لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، “صادم” للموقف الشعبي، و”طعنة” للقضية الفلسطينية.
وقال الحزب الذي أسسه الراحل حسن الترابي، في بيان: “جاء هذا اللقاء ليس فقط طعنة لقضية فلسطين، وإنما تلطيخ لسمعة بلادنا العزيزة ومواقفها المشرفة دفاعاً عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”.
بدوره، قال رئيس “حزب الأمة القومي” السوداني، الصادق المهدي: إن لقاء البرهان مع نتنياهو “لن يحقق مصلحة وطنية أو عربية أو دولية”.
وعلى النقيض من كل ما سبق، وصف رئيس “حزب الأمة” مبارك الفاضل المهدي، اللقاء بأنه “جريء وشجاع من البرهان”.
واعتبر المهدي في تدوينة عبر صفحته على “فيسبوك”، أن “اللقاء يمهد لرفع العقوبات الأمريكية”، المفروضة على السودان منذ عام 1997.
ورفعت إدارة الرئيس دونالد ترمب، في 6 أكتوبر 2017، عقوبات اقتصادية وتجارية عن السودان، لكنها أبقت اسمه على قائمتها لـ”الدول الراعية للإرهاب” المدرج عليها منذ عام 1993، لاستضافته زعيم “تنظيم القاعدة” الراحل أسامة بن لادن.
مرونة تدريجية تجاه “إسرائيل”
وكانت خلال الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس المعزول عمر البشير (1989- 2019)، قد ارتفعت أصوات في السودان تنادي بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، لكنها ظلت مجرد دعوات.
ونسبت وسائل إعلام محلية في يناير 2016 لوزير الخارجية إبراهيم غندور، قوله: إن حكومته يمكن أن “تدرس” التطبيع مع “إسرائيل”.
واعتبر الغندور ذلك مدخلًا لتطبيع العلاقات مع واشنطن، التي تفرض عقوبات اقتصادية قاسية على البلاد لقرنين من الزمن، وهو الحديث الذي تم نفيه سريعاً.
وجاهر حزب المستقلين، وهو غير مؤثر ولم يمثل من قبل تحت قبة البرلمان، بالدعوة للتطبيع خلال مداولات مؤتمر الحوار الوطني، التي استمرت لثلاثة أعوام بدعوة من البشير (2014 -2017)، وقاطعته غالبية فصائل المعارضة الرئيسة، لكن الأحزاب المشاركة رفضت الخطوة.
وفي أغسطس 2017، قال نائب رئيس الوزراء وزير الاستثمار (آنذاك) مبارك الفاضل المهدي: إنه لا مانع من تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، على اعتبار أن الأمر يحمل في طياته فوائد للمصالح السودانية.
نظرة على تاريخ العلاقات
ومنذ استقلال السودان، لم تنشأ أي علاقات ثنائية بين تل أبيب والخرطوم، بل شاركت الأخيرة في الحروب التي شهدتها المنطقة العربية ضد “إسرائيل” وأرسلت جنوداً للقتال في حربي العام 1948 والعام 1967.
واحتضن السودان قمة “اللاءات الثلاث” المعروفة بقمة الخرطوم في 29 أغسطس 1967، بعد هزيمة العرب على يد “إسرائيل” بالحرب التي اندلعت في 5 يونيو من نفس العام، وعرفت بـ”النكسة”.
وخرجت القمة العربية آنذاك بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال “لاءات” ثلاث، وهي: “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني (إسرائيل) قبل أن يعود الحق لأصحابه”.
ودرج المسؤولون السودانيون خلال العقود الماضية، على تأكيد وقوفهم جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين في قضيتهم، وعادة ما يتباهون بدعمهم للقضية الفلسطينية.
وفي الفترة بين عامي 2008 و2014 قصفت “إسرائيل” أكثر من مرة أهدافًا داخل الأراضي السودانية، بحجة تهريب حكومة الخرطوم أسلحة إيرانية إلى حركة “حماس” في غزة، مروراً بصحراء سيناء المصرية.
ووقع الاعتداء الأضخم عندما قصف سلاح الجو الإسرائيلي، مصنعاً حربياً بالخرطوم في عام 2012، لكن تل أبيب لم تعلق حتى الآن رسمياً، على اتهام السودان لها بتنفيذ الهجوم.
والسودان هو أول دولة أعلنت الحرب على “إسرائيل” من داخل البرلمان عام 1967 وكان حينها برلماناً ديمقراطياً.
تفاؤل “إسرائيلي” حول مصير اللقاء
والإثنين الماضي، قال مكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية: إن نتنياهو “يعتقد أن السودان يمضي في اتجاه جديد وإيجابي، وقد عبر رئيس الوزراء (نتنياهو) عن رأيه هذا لوزير الخارجية الأمريكي (مايك بومبيو)”، دون تحديد تاريخ ذلك.
وتابع البيان: “يريد البرهان مساعدة بلاده في القيام بعملية تحديث من خلال إخراجها من العزلة، ووضعها على خارطة العالم”.
فيما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، مساء الإثنين الماضي، عن مصدر إسرائيلي لم تسمه، أن “لقاء نتنياهو والبرهان يمكن أن يقود لمرور الرحلات الجوية الإسرائيلية فوق السودان”.
وقالت الصحيفة: إن نتنياهو كان قد صرح بعد استئناف العلاقات مع تشاد في يناير 2019، بأنه يسعى لإقناع السودان وتشاد بالسماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق عبر أفريقيا إلى البرازيل، وهو المسار الذي سيقلص مدة الرحلات بنحو 3 ساعات.
وبحسب ردود الفعل المتواترة على اللقاء خلال الساعات الماضية، يبدو أن الأوضاع لن تسير وفق التفاؤل الذي يبديه الجانب الإسرائيلي، بحسب عدد من المراقبين.
وحتى لو نجحت الخرطوم في تحسين علاقتها مع تل أبيب على المستوى السياسي، فإنه لا يتوقع كثير من المحللين أن يؤدي ذلك إلى تحسن على المستوى الشعبي.