وهذه القناعة خلص إليها الكونغرس الأمريكي، في مايو/أيار 2019، حيث قال في بيان أن “الدور الحقيقي الفعال.. في مكافحة الإرهاب قامت به القوات المتمركزة في مصراتة. أما حفتر، فليس مكافحا للإرهاب، بل هدفه الرئيسي الاستيلاء على السلطة”.
وسبق للمندوب البريطاني في الأمم المتحدة مارك ليال غارنت، في فبراير/شباط 2015، أن أقرّ أن كتائب مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) أكثر من حارب الإرهاب في ليبيا.
وقال السفير غارنت: كتائب مصراتة، الوحيدة التي تقاتل “داعش” الآن في ليبيا، وأنّ قوات حفتر فشلت في مجابهة التنظيمات المتشدّدة في مدينة بنغازي (شرق) على مدار السنة.
وفي هذا الصدد، يكشف العقيد عبد الباسط تيكة، في جهاز مكافحة الإرهاب، للأناضول، أن قوات الوفاق اعتقلت العشرات من عناصر “داعش”، غالبيتهم قياديين في سرت.
ففي مايو 2016، وبعد أقل من شهرين من دخول حكومة الوفاق (المعترف بها دوليا)، إلى طرابلس، ومباشرتها أعمالها رسميا، أطلقت عملية “البنيان المرصوص”، التي خاضت أشرس المعارك ضد “داعش”، الذي سيطر في 2015، على مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، وسيطر على عدة بلدات شرقا وغربا، على امتداد 250 كلم من ساحل خليج سرت.
وحاول “داعش” حينها السيطرة على الموانئ النفطية شرقا، قبل أن يولي وجهه نحو الغرب الليبي، ويباغت كتائب مصراتة في هجوم استباقي، وسقطت عدة بلدات في يده سريعا مطلع مايو 2016، إلى أن وصل إلى منطقة السدادة التي لا تبعد عن مصراتة سوى نحو 90 كلم.
وبسرعة استكملت حكومة الوفاق، استعدادتها، وأوقفت عملية “بنيان المرصوص” (يتشكل قوامها من كتائب مصراتة)، زحف فلول “داعش”، وبدعم جوي أمريكي فاعل، ومشاركة وحدات خاصة من القوات البريطانية، فضلا عن دعم إيطالي “للوفاق” بمستشفى ميداني في مصراتة يضم 100 طبيب ويحميه 200 مقاتل من القوات الخاصة.
انهار بعدها “داعش” سريعا، ونكصت عناصره راجعة إلى خطوطها الدفاعية القوية في مدينة سرت، بعد ان خسرت بلدات أبو قرين، والوشكة، والهيشة، وزمزم، وأبو نجيم وبويرات الحسون، على طول 150 كلم.
وتمكن 8 آلاف مقاتل من البنيان المرصوص من محاصرة بضعة آلاف من عناصر “داعش” داخل أسوار المدينة (ما بين ألفين إلى 5 آلاف)، لكن القضاء على “داعش” في معقله الرئيسي لم يكن سهلا.. أشهر طويلة من القتال، من بلدة إلى بلدة، ومن حي إلى حي، خسرت خلالها قوات حكومة الوفاق أكثر من 600 قتيل و3 آلاف جريح، بحسب قوات البنيان المرصوص.
واستخدم “داعش” حينها السيارات الانتحارية، التي لا توقفها سوى قذائف المدفعية، وصواريخ “آر بي جي” المحمولة، كما لجأ إلى تفخيخ الأحياء والبيوت والسيارات، واتخذ المدنيين دروعا بشرية، ولعب قناصة التنظيم دورا رئيسيا في عرقلة تقدم قوات الوفاق، لكنه بعد نحو 8 أشهر من القتال، انهار آخر معقل له في حي “الجيزة البحرية” بسرت، بعدما خسر التنظيم الإرهابي أكثر من 1500 عنصر.
** مطاردة بقايا “داعش”
بعد القضاء على القوة الرئيسية لداعش في سرت، شكلت حكومة الوفاق في نهاية 2016، جهاز لمكافحة الإرهاب، لمطاردة بقايا التنظيم.
ويقول العقيد تيكة، إنه بعد هزيمة “داعش” في 2016، تم اختيار مجموعة من قوات البنيان المرصوص، وقسمت إلى قوة عسكرية مشكلة من عناصر تلقوا دورات تدريبية، وقوة احتياطية.
وتولت هذه القوة الجديدة مطاردة عناصر “داعش”، بالتنسيق مع القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، وأيضا مع القوات البريطانية والإيطالية، التي كانت شريكة لها في قتال داعش في سرت.
وبالتعاون مع حكومة الوفاق، قصفت قاذفات أمريكية ثقيلة معسكرين لداعش، جنوب غرب بني وليد، وقضت على 80 عنصر، في 18 يناير 2017.
وتلاها بعدها عدة غارات أمريكية، بالتنسيق مع حكومة الوفاق، آخرها مقتل 8 عناصر من داعش، بالقرب من مدينة مرزق (950 كلم جنوب طرابلس)، في 20 سبتمبر/أيلول 2019.
** القضاء على آخر معقل لداعش
بعد القضاء على “داعش” بسرت في ديسمبر/كانون الأول 2016، ومطاردة ما تبقى من عناصره في وديان وشعاب جنوب سرت وجنوب شرق مدينة بني وليد، كان الاعتقاد أنه تم تشتيت عناصره وفقد السيطرة على المدن والبلدات الكبيرة، قبل أن يفاجأ الجميع بأن لديهم مركز كبير للتدريب بضواحي مدينة صبراتة (70 كلم غرب طرابلس)، لا يقل عدد أفراده عن 200 عنصر.
ففي 19 فبراير/شباط 2017، وجهت طائرة أمريكية ضربة صاروخية لمنزل في صبراتة أوقعت نحو 50 قتيلا من “داعش”، وردّ التنظيم بهجوم انتقامي على مقر مديرية أمن صبراتة، التابعة لحكومة الوفاق، فقتل 12 رجل أمن، لكنه خسر 5 أفراد من عناصره.
كادت صبراتة، أن تتحول إلى معقل جديد للتنظيم الإرهابي، لولا تحرك حكومة الوفاق سريعا هذه المرة وشكلت غرفة عمليات من كتائبها في المنطقة الغربية، وتمكنت من طرد عناصر “داعش” من المدينة، بعد معارك شرسة دامت أياما فقط، خسر فيها نحو 50 قتيلا والعشرات من الأسرى.
ولأن غالبية عناصر “داعش” في صبراتة، من الجنسية التونسية، حاول العشرات منهم بمساعدة خلايا نائمة، إقامة إمارة في مدينة بن قردان، جنوب شرقي تونس، لكن قوى الأمن والجيش التونسي تصدوا لهم وقضوا وأسروا على معظمهم.
** داعش ينتقم من طرابلس
مرّ النصف الثاني من عام 2017 بردا وسلاما على الليبيين، بعد أن أصبحت هجمات “داعش” نادرة وتكاد لا تذكر، واكتفى فيها التنظيم بتلقى الضربات الجوية الأمريكية القاتلة، التي شلت بشكل كبير نشاطه، مما دفعه إلى تغيير تكتيكه القتالي “من السيطرة على المدن إلى عمليات الذئاب المنفردة”.
وفي هذا السياق، يوضح العقيد تيكة، أن قيادة “داعش” طلبت من عناصرها أن لا يتنقل أكثر من اثنين في آلية واحدة، وأن لا يتكون أي رتل من أكثر من آليتين، وأن يتسللوا فرادى إلى المدن بزي غير ملفت للانتباه.
انتشر عناصر “داعش” في الصحراء الإفريقية الكبرى، في مجموعات صغيرة، بعد أن أخفقوا في تحويل بني وليد وشعابها إلى قاعدة خلفية لهجماتهم، قبل أن يستقروا في جبال الهروج، وسط الصحراء الليبية، ومن هناك بدؤوا شنّ هجماتهم شمالا وجنوبا.
وفي 2018، بدأ “داعش” في تركيز ضرباته على طرابلس، لكن بأسلوب “الذئاب المنفردة”، وبشكل أدق عبر عمليات الانغماسيين (هجمات مسلحة وانتحارية في نفس الوقت).
وفي هذا الإطار، قام عنصران من داعش، في 2 مايو 2018، باقتحام مقر مفوضية الانتخابات في طرابلس، وفجروا أحد طوابقه، وقتلوا 13 شخصا بين حراس وموظفين، قبل أن تتمكن قوات حكومة الوفاق من القضاء عليهما.
وفي 10 سبتمبر/أيلول من ذات العام، اقتحم 3 انغماسيين من “داعش”، مقر المؤسسة الوطنية للنفط (حكومية) وسط طرابلس، وقتلوا اثنين وأصبوا 10 من الموظفين، بعد تفجير أنفسهم.
وقبل انتهاء عام 2018 بأيام، قام 3 انغماسيين من “داعش”، بهجوم استعراضي على مقر وزارة خارجية حكومة الوفاق في طرابلس، تخللته اشتباكات مع قوات الأمن وتفجير أحدهم لنفسه، قبل أن يحرقوا المكان، مخلفين 3 قتلى و21 مصابا.
** احتواء الذئاب المنفردة
لكن في 2019، تمكن جهاز مكافحة الإرهاب، بحسب تيكة، من متابعة وتوقيف الكثير من خلايا داعش (الذئاب المنفردة)، في طرابلس والعديد من مدن المنطقة (دون تحديد عددهم).
ففي ظرف أربع سنوات تمكنت حكومة الوفاق، من القضاء على سيطرة “داعش” على جميع مدن وبلدات المنطقة الغربية الخاضعة لسيطرتها، وحتى بعد أن غيّر التنظيم تكتيكه القتالي، تمكنت الوحدات الأمنية لحكومة الوفاق من التكيف سريعا وإعادة احتوائه والسيطرة عليه.
غير أن سيطرة حفتر على محافظات لإقليم فزان (جنوب)، وهجومه على طرابلس ومدن المنطقة الغربية، في أبريل/نيسان 2019، منح “داعش” جرعة أوكسجين لإعادة تنظيم نفسه، واستهداف بلدات معزولة في الصحراء الليبية مثل “غدوة”، والفقهاء”، و”أم الأرانب”.