تظاهرت النصوص من الكتاب والسنة على إعلاء مقصد حفظ الدين في سُلَّم ومراتب مقاصد الشريعة الشريفة، والناظر في واقع الوجود الإسلامي بأوروبا والغرب عامة يجد بجلاء أن تأسيس المساجد ضرورة دينية لا ريب فيها، ذلك لوضوح الفروق المتعددة بين الدور الكبير الذي تلعبه المساجد في حياة مسلمي الغرب، وبين دور المساجد في حياة المسلمين داخل المجتمعات الإسلامية، باستثناء بعض الدول في أوروبا الشرقية أو غيرها ذات الكثافة السكانية المسلمة العالية، ومع ذلك تعيش كأنها أقلية في بعض الأحوال.
وعلى الرغم من وجود محاضن تربوية ومراكز تعليمية وتثقيفية متعددة بدأت في الانتشار على الساحة الأوروبية منذ عقدين من الزمان، فتبقى المساجد هي المركز الرئيس في حياة المسلمين هنا. غير أن كثيرا من التحديات الحالية تهدد قيامها برسالتها المنشودة، وما لا يدركه بعض المسلمين أن المساجد في العالم الإسلامي هي جزء من منظومة تؤدي دورا في حياة المسلمين، وتُزاحمها أو تتعاون معها مؤسسات أخرى عديدة، فضلا عن منظومة المجتمع القائمة على قيم وآداب وعادات تصنع المسلم في قالَب يتيح له الفرصة للعودة إلى الدين إن شَرَد أو ضل السبيل. كما أن استمرارها مسؤولية المجتمع والدولة وهي بَعْدُ مملوكة فلا يوجد- غالبا – مساجد مستأجرة يمكن أن تُغلق عند حدوث أزمة مالية، أو رغبة صاحب البناء في تسريح سكانه. أما هنا فالأمر مختلف تماما، وليس أمام المسلم إلا أن يستشعر تلك المسؤولية، هنا في ألمانيا تم إغلاق عدد من المساجد لتعسر أداء الإيجار، ولا عزاء لمن يقول: للبيت رب يحميه .
تحديات غير مسبوقة
من عاش في أوروبا فترة التسعينات لم يدر في خلده أن تلك التبرعات الوافدة على المساجد من دول الخليج ستنقطع يوما ما، وإنها لم تنقطع فقط، بل هناك حصار وتجفيف كامل لمنابع الدعم المالي، ولا يخفى علينا حملات التخويف والتشويه والاعتداءات المتواصلة على المساجد في ألمانيا وبعض البلدان الأوروبية، كل ذلك يفضي إلى التضييق على المساجد والقائمين عليها وداعميها.
مستقبل المساجد المالي كيف نفكر فيه؟
أعتقد أننا تقليديون أحيانا في التفكير، وهذا ينعكس على جميع أعمالنا وسير مؤسساتنا، ليس على مستوى المال فقط بل على مستوى الإدارة والأعمال، ولن نتقدم كثيرا إن بقينا نفكر وحدنا بعيدا عن أهل الاختصاص والرأي والتجربة، لقد أصبح جمع المال علما وفنا له أهله، فعلينا أن نستفيد من أفكارهم في فنون التسويق مع الحرص الكامل في احترام القوانين.
ولعلي أحدد بعض النقاط السريعة التي نراها من روافد الدعم المالي للمؤسسات الإسلامية:
1- أهل الثقة هم مصدر الخير:
نعم عندما يضع الناس ثقتهم في مجموعة من الأفراد فإنهم سيبذلون بسخاء، ولكل شخص مفتاح فعلينا أن نتواصل مع أهل الخير من خلال الأفراد الذين يحوزون ثقتهم.
2- الشفافية الكاملة مع أعضاء الجمعية العمومية والمحسنين
نرى أن ترسل المساجد لأعضاء الجمعية تقريرا شهريا عن البرامج التعليمية والدعوية والتربوية والاجتماعية التي يقوم بها المسجد ليرى الناس الجهود المبذولة ويكونوا شركاء في الغنم والغرم، فضلا عن اللقاءات المباشرة مع جمهور المسجد، والمتطوعين والمتبرعين وتقديم تلك التقارير ومعها تقارير مالية دورية.
3- المشروعات الذكية:
الفكرة الجيدة تتكفل بتوفير الدعم اللازم لها، وكلما كانت الفكرة ملامسة لحاجات المسلمين ومستقبل أبنائهم كانت جديرة بالرعاية والاهتمام، لو أردتَ عقد دورات أو مؤتمرات أو مخيمات أو رحلات للشباب ستجد الداعمين بلا مشقة كب تُذكر، ما يهمنا جودة الفكرة وأمانة وحكمة من هو أهل لحملها والإيمان بها والتحرك لأجلها.
4- مشروع الوقف:
وهو أمر طويلٌ شرحه عميقٌ سبره، لكنه الرافد الأطول عُمرا والأكثر ترسيخا وتطويرا ودعما للمؤسسات الإسلامية بالغرب، ولا بد من التفكير في المشروعات الوقفية المناسبة، ويجب أن تخضع للتخطيط والتدقيق حتى تؤتي أكلها.
5- أموال الزكاة:
رغم وجود الفتاوى المُبيحة والمرغبة لدفع زكاة المال المساجد في الغرب، كما في جاء في الكتاب الفذ “فقه الزكاة ” للعلامة الإمام القرضاوي، لأنها تدخل في مصرف {وفي سبيل الله} إلا أن قوة التفاعل معها ما زال ضعيفا، لأنه رهن الوعى بأولويات الإنفاق والموازنة بين الواجبات، ومن هنا فهى مهمة الدعاة في ترشيد استهلاك أموال وجهود مسلمي الغرب في دعم وتقوية وجودهم ومؤسساتهم. ولست أقصد بحال أن يتخلى مسلمو الغرب عن جهودهم الإغاثية للمنكوبين حول العالم من المسلمين وغير المسلمين، بل هي الموازنة لا غير.
6- صدق الداعية هو منبع الخير:
ما اجتمع الصدق في مشروع إلا كتب الله له التوفيق والقبول في قلوب الخلق. ولا تلتفت يا أخي كثيرا إلى القدرات والمواهب وصناعة العلاقات وغير ذلك من الأسباب، فإن تخلف شرط الإخلاص وحسن التوكل على الله تعالى والتضرع إليه وصفاء القلوب بين العاملين فلن يجدي الجهد فتيلا، فالعون الإلهي منوط بسلامة القصد وبذل الوسع، ولكل مسجد قصص في بنائه يتجلى فيها اللطف الرباني، ولعل القائمين على المؤسسات الإسلامية يذكرون منها ما يدهش العقول، ولعنا نفردها بمقال إن أذن الله تعالى.
ولله در القائل:
اللهَ قُل وذر الوجود وما حوى *** إن كنتَ مرتاداً بلوغ كمالِ
فالكل دون الله إن حققتَه *** عدمٌ على التفصيل والإجمالِ
ماذا ينتظر مسلمو الغرب من المساجد؟
لقد بذلت الأجيال التي وطئت أقدامها أرض أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا جهودا مضنية، لقد عكفوا على تشييد المساجد واقتطعوا من زاد عيالهم ليعمروا مساجدَ أَذِنَ الله أن تُرفع، وقد أكرمنا الله بمعايشة الكثيرين منهم في مدن عديدة، وكأن وجوههم النضرة الباسمة تتراءى لي الآن من بين الحروف، وأحسب أن القارئ الكريم يحضره الآن صور من عرفهم ورأى تعلق قلوبهم ببيوت الله.
ما فهمت قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: “ورجل قلبه معلق بالمساجد” حتى رأيتهم بعيني وعايشتهم شهورا وسنوات وكنت أغبطهم على هذا الشوق المتجدد في قلوبهم للمسجد وحرصهم عليه كحرصهم على صغارهم، هذا الجيل أدى ووفى كثيرا جزاهم الله خيرا على ما قدموا. ولا ريب أن أداء المساجد على الساحة الأوروبية قد تطور من حيث الشكل والمضمون بشكل لافت، فانتقلت كثير من المساجد من الإيجار إلى التملك، وتطور أداء الإدارات بشكل لا بأس به، ونهضت المساجد بتأسيس مدارس السبت والأحد وعنيت بالتكوين العلمي والتربوي للمعلمين، وقامت مؤسسات أوروبية لوضع مناهج اللغة العربية التي تراعي خصوصية الطفل المولود في أوروبا والغرب عامة.
ما هي الآمال المعقودة على المساجد حاليا؟
ما زال أمامنا آمال كبيرة في تحقيق رسالة المسجد بالغرب وأداء دوره على النحو الذي يعيد سيرته الأولى يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ليكون محضنا لبناء الأجيال بناءً إيمانيا وعلميا وتربويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، يشترك فيه الرجال والنساء.
سنشير إلى ثلاثة واجبات أساسية:
العناية بالجيل الجديد:
المراهنة الآن على الأجيال الجديدة من المسلمين، ويجب أن نفطن إلى ذلك جيدا، وعلينا أن نكون على مستوى المرحلة التي يمر بها العالم. يجب أن نستحضر مشهد نبي يعقوب عليه السلام حين جلس مع بنيه وهو يلقى على مسامعهم أغلى وصية قرعت آذانهم {لا تموتن إلا وأنتم ومسلمون} إذاً فالهم الأكبر الذي يجب أن يتملكنا هو: أن نسكب في قلوبهم معرفة الله جل جلاله ومحبته وابتغاء وجهه الكريم والسعي لرضاه وطلب جنته، ومحبة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم والشوق له وتعلق القلب به، والانتماء للدين الخاتم وفهمه والاعتزاز به .
هذا دور فردي وجماعي، يجب على المؤسسات الإسلامية أن تصنع كافة الأسباب من أجل جذب الأطفال للمساجد وحسن تعهدهم وتحفيزهم، وهناك الكثير من البرامج التربوية والتعليمية التي يمكن أن تقوم بها المساجد للمحافظة على هوية أبنائنا. وكل مال يجب أن رخيصا سهلا أمام أي نشاط في هذا السبيل، وعلى كل مسلم أن يوقن بأنه مسؤول عن قيام هذه المؤسسات واستدامتها وتطور عملها من خلال حضوره الفاعل ودعمه ونُصحه ودعائه .
حضور الشباب
عجيب جدا حينما نسأل سؤالا ونحن نعرف جوابه، ولكن سنسأله على كل حال، وهو: لماذا لا ينتظم كثير من الشباب في الغرب بالمساجد؟
– كلنا يتفق على أن أكثر الأطفال حينما يشتد عودهم ويبلغون مبلغ الشباب يتفلت كثير منهم للحضور إلى المساجد، لماذا؟
– هل لأن تلك طبيعة المرحلة ؟ هل يفضل بعض الشباب أن يمارسوا أنشطتهم خارج المساجد؟
– هل لا تلبي المساجد حاجاتهم الفكرية والترفيهية والتربوية ولا يجدون فيها ما يرجون ؟
– هل لأن معظم البرامج لا تُقدَّم باللغات الأوروبية ؟ أو تكتفي معظم المساجد بدقائق معدودة لترجمة خطبة الجمعة أو المحاضرة؟
– هل لأن بعض إدارات المساجد لا تُلقى للشباب بالا وتضن عليهم بأن يكون لهم برامج يشرفون هم عليها دون بيروقراطية منفرة ؟
علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا أكثر ونتخذ خطوات صادقة من أجل حضور الشباب داخل المساجد وتدريبهم على المسؤولية والقيادة.
مشاركة حقيقية للمرأة داخل المؤسسات الإسلامية
وكأن العنوان يوحي بأن هناك مشاركة حاليا للمرأة في تفعيل وإدارة المؤسسات الإسلامية، نعم تغيرات إيجابية ملموسة نراها، بفضل جهود فكرية وتثقيفية كبيرة عبر عقود خلت، ومن ثم بدأت تتشكل ثقافة الحضور الهام للمرأة في الحياة الإسلامية تخطيطا وتنفيذا، لكنها لا زالت دون المأمول ولم تستوعب القدرات الحقيقية للمرأة .
لا تخطئ العين الحضور النسائي الغالب لكثير من البرامج العلمية والدعوية والتربوية على الساحة الغربية، ولا زالت كثير من المساجد في الغرب تضن عليها بالمكان والمكانة اللائقة بها، فإذا التفتَّ إلى عدد من المؤسسات العلمية والدعوية ستجد كذلك نفس الخلل، ونحن هنا نتثمل كلام الإمام محمد الغزالي رحمه الله حينما كان يتحدث حول حكم ولاية المرأة، فليست الغاية في ذاتها أن نجعل المرأة رئيسا، إنما أن يتولى الأمر القوى الأمين، أي: اعتبار الكفاية في الاختيار دون إقصاء لاعتبار الجنس أو النوع أو اللون أو العِرق، مع الحكمة والأمانة في التوظيف المناسب للأفراد فيما يُحسنون وما يَصلحون له .
ستبقى المساجد مصدر الإشعاع الروحي والفكري، والعطاء العلمي والعملي، والمحضن التربوي والخلقي، والملتقى الأخوي والاجتماعي، ومَعْقِدَ الرجاء في صناعة الأجيال، ومبعث السكينة والسعادة، ومعراج الروح إلى الملكوت الأعلى.
* المصدر: مدونات الجزيرة.