أول معرفتي باسم مجلة «المجتمع» حين كنت في فورة القراءة التي اشتعلت في وقت المراهقة، ولهذا قصة.. كنتُ حينها في أعماق صعيد مصر، وكانت تصلنا بعض أنواع المجلات الإسلامية، ومن بينها مجلة إسلامية كويتية كنت أتابعها بشغف، وفيها نشرتُ أول مقالاتي وأنا في الثالثة عشرة من عمري في «بريد القراء»، وفي ذلك الوقت كنا نكتب على الورق ونرسل بالبريد ويأكلنا الشوق حتى يأتينا العدد، وأذكر أن العدد الذي رأيت فيه اسمي لأول مرة كان كأنه يشع نوراً من فرط فرحتي به!
وفي ذلك الوقت، وبينما كنتُ أزور شيخي الذي أحفظ القرآن على يديه إذ لقيت عنده قريناً له قد جاء من القاهرة، وسمعت من حديثهما أن ثمة مجلة أخرى كويتية أيضاً لا تصل إلينا في الصعيد، واسمها «المجتمع»، وقد اختلف أصحابنا حول سرِّ عدم وصولها إلى الصعيد، فقائلٌ: إنها تتخطف منذ نزولها إلى القاهرة لقوتها وكثرة جماهيرها، وقائلٌ: إن السلطة في مصر لا تسمح بغير عدد ضعيف منها لا يكاد يكفي جمهورها في القاهرة، وقائل: إنها مع مجلات وصحافة أخرى لا توزع خارج القاهرة كما هي الحال في بعض الصحف والمجلات العالمية الأجنبية التي تخوض في السياسة بما لا ترضى عنه السلطة المصرية.
وما بالك بمراهق صعيدي شغوف بالقراءة يعرف أن مجلة إسلامية تتحدث في السياسة، فتوضع على صعيد واحد مع المجلات الأجنبية والصحف السياسية التي لا يقرؤها غير النخبة القاهرية المحظوظة، فعزمتُ على أن أوصي المسافر الثقة إلى القاهرة أن يبحث عن أعداد هذه المجلة ويأتيني بها، إلا أن أحداً منهم لم يفلح!
وقر في يقننا مع الفشل المتكرر في الحصول على نسخة من المجلة أنها صارت ممنوعة لا توزع في مصر، ولم يكن الوصول إلى خبر يقيني ممكناً للقارئين من أهل الصعيد، لشح الأخبار حول ما يُصادَر أو ما يُمنع، وذهب الأمل في العثور عليها.
ثم إني كبرت قليلاً وصرت أذهب إلى القاهرة للدراسة أو للعمل، ثم صرت مقيماً فيها، وكان العثور على مجلة «المجتمع» من أهدافي التي ظللت شغوفاً بها ولم أعثر عليها قط، في ذلك الوقت تأكدت أنها ممنوعة، صرَّح لي بهذا عدد من موزعي الجرائد والمجلات، وبعضهم نصحني نصيحة المحب الشفوق: يا بني، أنت شاب وفي مطلع حياتك، ابحث عن الأشياء النافعة، ولا تبحث عن مثل هذه المجلات!
كانت نصيحته هذه قد زادت من شغفي أنني أبحث بالفعل عن الأشياء النافعة.
ثم كان أن فتح الله علينا بالإنترنت، وفيها صافحت وجوهنا للمرة الأولى المواد التي تنشر على مجلة «المجتمع»!
تذكرت هذا كله حين أخبرني مدير التحرير بأن مجلة «المجتمع» ستكمل نصف قرن هذا العدد، ورغب في أن أكتب، إن كنتُ كاتباً، عن مجلة «المجتمع».
لكوني شغوفاً بالتاريخ، فلا بد من الشغف بالتقليب في الأرشيف، وقد حداني الشوق قبل زمن للبحث عن العدد الأول منه، وقادني البحث والحمد لله إلى أن استقرت عندي الأعداد الأولى من مجلة «المجتمع»، وبينما أنا في تقليب هذه الأعداد، إذ لفت نظري قصاصة هي بمثابة النبوءة التي تتحقق، كان مقالاً صغيراً تحت مسمى «في الضوء»، وكان شعاره «ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً»، وكان عنوان المقال «الطريق إلى خيبر»، وكان في العدد الثالث من المجلة.
قبل أن نتحدث عن هذه «النبوءة»، يجب أن نذكر أن الزمن الذي بدأت فيه مجلة «المجتمع» في الظهور كان يحمل خصوصيته، فقد كان زمن انهيار المشروع القومي العربي بعد تلقيه الضربة الهائلة الصاعقة بنكسة 1967م، حيث اجتاحت «إسرائيل» جوارها العربي في عملية عسكرية هي الأسرع منذ الفتوحات العربية (والتعبير للأستاذ المفكر الراحل محمد جلال كشك)، وفي تلك المرحلة طاحت التفسيرات يمنة ويسرة وهي تحاول تقديم سبب الهزيمة، فمنها ما جعل الهزيمة أصلاً أصيلاً وطبعاً طبعياً في جيناتنا ودمائنا وتراثنا، وأننا أمة منكوبة مهزومة لا أمل فيها تحمل بذور الهزيمة في تراثها ولغتها وأدبها، ومنها ما قال بأننا لم نتعلم بما فيه الكفاية أو لم نكن عرباً كما ينبغي أو لم نكن علميين أو اشتراكيين بالقدر المطلوب.. وهكذا!
وجه الحل
كانت «المجتمع» صوتاً ضمن الموقف الإسلامي الذي يشير إلى أن سبب الهزيمة على الحقيقة أننا تخلينا –بل وحاربنا- ديننا الذي هو أهم مكونات النصر، ولقد انشغلت المجلة منذ أيامها الأولى بقضايا إسلامية تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن تيار العروبة الجريح، لكنها مع قليل من النظر تسفر عن وجه الحل كما يراه المسلمون، لذا حفلت المجلة منذ أيامها الأولى بأخبار الأقليات المسلمة في عموم أنحاء العالم، وكتب فيها رائد الاقتصاد الإسلامي د. عيسى عبده منذ عددها الأول سلسلة عن الاقتصاد الإسلامي، وحددت المجلة أعداءها منذ غلافها الأول الذي كان يرسم صورة المقاوِم الذي يعبر فوق «الفساد، والاستعمار، والصهيونية»، ولقد وجدتُ عبارة عميقة لمحرر رسائل القراء يقول فيها عن الفارق بين الأمة الإسلامية وعدوها أنهم أدركوا بعمق الفارق بين كلمتين اثنتين؛ بين كلمة «يجب» وكلمة «كيف».
في ظل هذا كله لم يكن غريباً أن يعاني صندوق بريد رسائل المجلة من التخمة، حتى إن محرره ليضطر إلى الاعتذار عن ضيق المساحة واقتضاب التفاعل مع الرسائل، وهو لم يزل في العدد الثالث، في هذا إشارة إلى أن المجلة كانت تملأ فراغاً وتشبع احتياجاً وتروي تشوقاً للصوت الإسلامي لا سيما في هذه المرحلة.
تحولت الصحافة منذ أمد طويل إلى واحدة من أهم موارد التاريخ، سواء التأريخ للأحداث أو حتى التأريخ للعلوم، فالذي يبحث في تطور علوم الاجتماع واللغة والخطاب والصورة لا يجد أغزر وأدل من المادة الصحفية، ومن هنا؛ فإن وجود صوت إسلامي في هذه المرحلة بمثل ثِقل مجلة «المجتمع» يمثل إضافة قوية لفهم هذه المرحلة، وفهم الأفكار السائدة فيها، وفهم الحالة النفسية المهيمنة عليها.
في هذا الإطار، تأتي «النبوءة» التي أسلفت الإشارة إليها، يشير الكاتب إلى ملاسنة وقعت في مؤتمر جدة بين وزير الخارجية الليبي صالح بوبصير حين طالب الدول الإسلامية بقطع العلاقة مع «إسرائيل» وهو يشير إلى السنغال، فردّ عليه وزير الخارجية السنغالي بقوله: لماذا تلومون السنغال ولا تلومون فرنسا صديقة العرب وفيها أكبر سفارة لـ»إسرائيل»؟! بل لماذا تحرصون على علاقات مع الاتحاد السوفييتي وهو لا يؤمن بالديانات؟!
وبالطبع انجلى المؤتمر ولم يغير أحد موقفه لا من «إسرائيل» ولا من فرنسا ولا من الاتحاد السوفييتي، إذ كلٌّ يعمل على شاكلته أو ضمن مصالحه وارتباطاته الخاصة، وهو ما جعل كاتب المقال يُلَمِّح إلى أن استقلال البلاد الإسلامية لم يغير شيئاً من حقيقة الواقع، فالدول التي كانت محتلة وليس لها صوت عند صدور «وعد بلفور» أو عند تقسيم الأمم المتحدة لفلسطين، ما زالت لا تفعل شيئاً، بل إن غاية أحلام بعضها «قطع العلاقات» أو «إزالة آثار العدوان»!
ويندهش صاحبنا ويتفجع: كيف يمكن أن يكون هذا؟ إنها حلول مخدرة وغير مقبولة، والحل الوحيد المقبول أن نعمل على قطع رأس الحركة اليهودية لا قطع العلاقات معها، وإزالتها من أرضنا وليس إزالة آثار عدوان يونيو، ثم أردف هذا بنبوءته:
«قد يُقال: إن هذا الحل فيه خيال وأحلام، ونحن نقول: إن أي حل آخر سوف يوقفنا بعد عشرة أعوام موقف اليوم نفسه، والفارق الوحيد أننا سنجد العدو في داخل عواصمنا الكبرى، وفي الطريق إلى خيبر»!
ولقد كان، حيث حلَّ العدو بعد عشر سنوات في كبرى العواصم العربية، وهو الآن في الطريق إلى غيرها.