في عام 2000م، وقعت يدي على عدد من مجلة «المجتمع»، وبدأت أتصفحها، وكان أكثر ما شدني لها اهتمامها بشؤون الأقليات المسلمة حول العالم، وداخل هذا العدد الذي قرأته وقعت عيني على تقارير حول عدد من المخيمات التربوية التي يقيمها المسلمون في الغرب للشباب المسلم، وتقارير وافية عن برامج هذه الأنشطة، فضلاً عن بعض المؤتمرات التي يعقدها المسلمون في أوروبا وأمريكا، ومدى إقبال الجمهور عليها، وحاجة المسلمين إليها، ويومها -وكنت حينذاك في مصر لم يسبق لي أن زرت أوروبا- أحسست يومها بشعور يربطني مباشرة بإخواني المسلمين في أوروبا والعالم، من خلال هذا الاهتمام بأخبارهم وأحوالهم وكيف يعيشون وسط أكثرية غير مسلمة؟ كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف يتعاملون مع المجتمع؟ وكيف يربون أبناءهم؟
وشاءت إرادة الله أن أزور ألمانيا لأول مرة عام 2002م، ثم أقمت بها من عام 2004م إلى الآن، وأثناء زياراتي لعدد من المراكز الإسلامية بألمانيا أجد المجلة راقدة على أرفف مكتبة المسجد في بعض جوانبها، فأتصفح بعض أعدادها وألحظ اهتمامها بمجريات أحوال المسلمين هنا.
بين العدد الأول من المجلة الذي انطلق يوم 17 مارس 1970 والعدد الأخير في مارس 2020م، تحتل هموم مسلمي العالم وأهم قضاياهم المصيرية منزلتها ومكانتها في صدر المجلة وفي عقول محرريها وقلوبهم، ففي العدد الأول تقرأ أخبار المسلمين في تنزانيا، والمسلمين في أمريكا، وفي جنوب الهند، والطلاب المسلمين في جنوب الباسفيك، وبعد نحو خمسين عاماً كان آخر عدد من عام 2019 وأول عدد في عام 2020م حول ظاهرة اليمين المتطرف ومستقبل المسلمين في أوروبا، وماذا يحمل العام الجديد من التحديات والآمال، وقد كان لي مساهمة في العددين بمقالين؛ الأول بعنوان: «اليمين المتطرف وخيارات مسلمي أوروبا»، والثاني: «مسلمو أوروبا في عام 2020م تحديات ماثلة وطموحات مأمولة».
تجسيد حالة الأمة الواحدة
من خلال الجهد المبذول في تتبع الأخبار والأنشطة والبرامج والفعاليات التي تقوم بها الأقليات المسلمة حول العالم ومؤسساتهم، ورصد الصعوبات والتحديات التي يواجهونها كظاهرة «الإسلاموفوبيا» وتداعياتها، وحالات الاعتداءات المتتالية على الأقليات في أماكن بعيدة، أعطت المجلة في عددها الأول اهتماماً بمعاناة المسلمين في بورما والظلم والقهر الذي يتعرضون له، وكنت عندما أسمع في عام 1998م عن مسلمي بورما لم أكن أعرف أين هم؟ وماذا يتعرضون له؟ وما تاريخهم؟ ومن يومها وأنا وغيري يحمل شعوراً بالأخوة الإسلامية لمن يقاسموننا الإسلام والإيمان والغاية والمصير، وهذا ما يترجم الأوامر القرآنية: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، والسُّنة النبوية المطهرة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه البخاري).
وما فتئت المجلة تواصل تغطيتها لأحوال وأخبار مسلمي الروهنجيا من خلال نشر الأخبار والتقارير والبيانات والمقالات التي تدعو مسلمي العالم خاصة والعالم عامة لوقف معاناتهم والوقف معهم وإغاثتهم، وتلك هي الأخوة، وإذا تتبعنا أعداد المجلة التي وصلت إلى 2141 عدداً، سنجد هذا الخط الواضح والسياسة الثابتة في عنايتها بالأقليات المسلمة، وتغطية الأحداث التي تمر بها بمصداقية ومهنية عالية، وصدق من وصفها بأنها «مجلة كل المسلمين في العالم».
نافذة تثقيف للأقليات المسلمة
لا ريب أن الكتب الورقية بوجه عام تلقى صعوبات هائلة وتحديات كبيرة في رواجها واهتمام الناس بها في ظل منافسة حادة موفورة الأدوات الجاذبة للقراء، فمع ثورة المعلومات والسيولة المعرفية وسهولة الحصول على المعلومات، وبعد أن أصبح عالم الكتب والمواقع الموارة بالمنتجات العلمية والأدبية بين يديك؛ أصبح لزاماً على الناشرين والكُتَّاب أن يستعدوا لهذه المواجهة بتطوير أدواتهم وفحص الواقع حتى يكملوا مسيرتهم ويحافظوا على وجودهم، وهذا تحدٍّ يواجه المجلة لا شك في ذلك.
وعلى الرغم من الصعوبات، فإنها تواصل رسالتها وتتبعها وتواصلها مع قادة المسلمين في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا للوقوف على همومهم وإنجازاتهم ونجاحاتهم.
ربما لا يشعر كثير من قراء اليوم بقيمة المجلة ودورها في تثقيف المسلمين حول العالم، لكن إذا أردت أن تقف على هذا الأثر؛ فارجع للوراء عقوداً ماضية، وانظر للساحة وقتها، ستجد كم كانت قديرة في رسالتها ومضمونها وعلمائها، ستقرأ مقالات لكبار العلماء والمفكرين من العالم الإسلامي، من أمثال الإمام العلامة محمد أبو زهرة، والإمام القرضاوي، ود. محمد عمارة، ود. سيد نوح.. وغيرهم من جهابذة العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين، ولا يعني حديثنا هذا عصمة ما كُتب فيها عبر السنوات الطوال، فهو جهد بشري يصيب ويخطئ.
وقد حدثني بعض الثقات أن المسلمين في الهند وسريلانكا يقومون بترجمة مجلة «المجتمع» لينتفع بها الشباب المسلم هناك، وهذا ما أثلج صدري وأسعدني كثيراً.
أرجو أن تكمل المجلة مسيرتها الثقافية والحضارية، وأن تواصل رسالتها بهمة وعزيمة.
رسائل وتوصيات
ويطيب لي في مناسبة مرور خمسين عاماً على انطلاقتها أن أوجه تلك الرسائل:
1- أترحم على روح من قام بتأسيسها، وحمل على كاهله مسؤوليتها، وضحى بجهده وماله ووقته من أجل أن يجد كل مسلم حول العالم فيها ضالته، وينشد فيها الحكمة والوعي الإيماني والتربوي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأدعو الله أن يبارك في عمر من بقي ويرحم ويتقبل من رحل عن عالمنا.
2- إلى جميع العاملين فيها، أهدي خالص الدعاء والتحيات نيابة عن مسلمي ألمانيا وأوروبا، فلهم الشكر على حسن متابعتهم وتتبعهم وبذل الجهد للحصول على المعلومات من مصادرها وتغطية الأخبار والأحداث وتحليلها بالمقالات النافعة.
3- أقترح أن تخصص المجلة في كل عدد ترجمة عَلَم من أعلام المسلمين في الغرب مما كان لهم دور في أثر الوجود الإسلامي عبر العقود الماضية؛ فهذا جزء من تاريخ المسلمين الحديث الذي يجب العناية به.
4- أدعو إلى عقد المزيد من ورش العمل للوقوف على أهم القضايا إلحاحاً على واقع الأقليات المسلمة حول العالم ومعالجتها في خطتها السنوية.
5- أقترح أن تتبنى المجلة إصدار كتاب حول هموم الأقليات المسلمة ومشكلاتهم الفقهية أو الاجتماعية أو غيرها.
6- أدعو إلى تكليف باحث يصنف كتاباً عن المجلة وأدوارها العديدة في مجال من المجالات على أن يُنشر في عدد خاص.
وأخيراً: وعلى الرغم من ضيق الوقت عندي، فإنني وجدت أن من الوفاء لهذه المجلة المباركة أن أخطّ بعض الكلمات، داعياً المولى الجليل أن يبارك فيها، وأن يسدد مسيرتها، ويوفق القائمين عليها للهدى والرشاد.
والله ولي التوفيق والهادي للخير والتُّقى.