البروفيسور محمد جورماز*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وآله وأصحابه أجمعين…
في مستهل حديثي أحييكم تحية إجلال وإكرام، أدعو الله أن يلهمنا دليل هداية ينير درب البشرية التي دخلت خِضمّ البحث عن معنى جديد للحياة مع هذا البلاء الذي ألمّ بنا، وشفاءً لأرواحنا المثقلة بالهموم، وسكينة لقلوبنا الملهفة، وبراءة لذنوب القرون.. وأضرع إلى الله جل في علاه أن يرفع عنا ما نزل بنا من الكوارث والأوبئة والخوف عاجلاً غير آجلٍ، وأتمنى شفاءً عاجلاً لإخواننا المرضى، وأن يتغمد موتانا بالرحمة والمغفرة وألهم أهلهم وأقرباءهم الصبر والسلوان، كما أدعو الله أن يحفظ الكوادر الطبية التي تعمل جاهدةً لدحر هذه الجائحة التي ألمت بنا.
إخوتي الأكارم
في هذا الدرس أود الوقوف على آثار الأزمنة العصيبة على عالمنا العقدي، وأعلم أن هناك أسئلة تختلج في أذهان الشباب في هذا الصدد؛ لذا سأتناول الموضوع على ضوء علم الأصول دون الخوض في التفاصيل.
إخوتي الأكارم
لقد أورثت مثل هذه المصائب والأوبئة والزلازل والمجاعات والحروب التي نزلت بالبشرية على مدى التاريخ آثاراً مدمرة في عقائد الأفراد والمجتمعات، ما انعكست على حياتهم الدينية، لكن ثمة هناك حقيقة ثابتة تاريخياً وهي أن المجتمعات التي تذخر بروابط دينية قوية وعقائد راسخة وتتمتع بأخلاق قويمة هي أقلها تأثراً بهذه الآثار.
حين ننظر إلى تاريخ الأوبئة الكبيرة نجد أن هذه الأمراض المعدية قد سرّعت من تسلسل الأحداث التاريخية، وفتحت أبواب تساؤلات واسعة على مختلف الأصعدة؛ الفكرية والثقافية حتى أنها أنهت القديمة منها وولّدت أفكاراً وثقافات جديدة ؛ فقبل ثلاثين عام من ولادة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقع طاعون جستنيان سنة 541 للميلاد واجتاح العالم وكاد أن يودي بأعظم إمبراطوريتين آنذاك الرومانية والساسانية، ومهدت الطريق أمام الفتوحات الإسلامية، وفي القرن الرابع عشر بين عامي 1347 -1352 الميلادية إجتاح أوروبا طاعون دبلي الذي عرف فيما بعد بـ “الموت الأسود ” وأودى بحياة 40% من سكان أوروبا معلناً بانتهاء الفترات المظلمة من العصور الوسطى، ثم ما لبث أن اُكتشف اللقاح فأذهب بروايات الكنيسة حول الطاعون أدراج الرياح، وههنا أود أن أذكّر بأنه لا ينبغي لأحد أن يتسرّع بالقول في مثل هذه المسائل ما يحرج عقولنا في المستقبل، و خاصة إذا تعلق الأمر بدين الله، فينبغي توخي الحذر.
حَزِن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوفاة فلذة كبده إبراهيم، وهو ابن سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر وخيم الحزن على المدينة المنورة، وفي اليوم نفسه كسفت الشمس فعزا الصحابة رضوان الله عليهم كسوف الشمس إلى موت إبراهيم فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وقام فيهم خطيباً وقال :” إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا “.
إخوتي الأكارم
في مثل هذه الأيام العصيبة يجول في خَلد الكثيرين جملة من التساؤلات وخاصة في أذهان الشباب على ضوء عشرات الرسائل التي وردتني من قبيل.. “إذا كان الله موجوداً وهو العدل المطلق والرحمة المطلقة والقدرة المطلقة فكيف يسمح بوجود الشر ؟.. إن كان الله هو خالق كل شيء فلِم خلق هذا الفيروس الذي يؤذي الجميع ؟.. إن كان هذا الفيروس سلاحاً بيولوجياً من إنتاج البعض فلِما يأذن الله بذلك ؟.. لِما أوجد الله الشر والآلام والأحزان والهموم ؟.. لماذا يموت الأطفال الأبرياء.. ؟”
لقد واجهت الأديان على مدى التاريخ تساؤلات حرجة في مثل هذه الأيام العصيبة، فكم من الناس اهتدى إلى سواء السبيل بأجوبة مرضية ، وكم منهم ضلوا عن سواء السبيل وأضاعوا إيمانهم والعياذ بالله، ولم يهتدوا إلى معنى الشر.
وإنه لمن واجبنا حيال هذه الأسئلة الحرجة التي تدور في خلد الشباب أن نتقبلها ونرفقها بإجابات شافية وصحيحة، وأن نعُدّها موقِفاً إبراهيمياً إذ سأل ربه ” رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ” وهو من هو.. نبي الله وقائد أمة التوحيد فأجابه الحق تعالى “ أولم تؤمن ” وكان جوابه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ” بلى ولكن ليطمئن قلبي ” وشباب اليوم يقولون أيضاً : نؤمن بذلك، لكن نسأل ليطمئن قلوبنا.. إذاً ينبغي علينا رفدهم بأجوبة شافية تُطَمْئِنُ العقولَ والقلوب، لا يمكنك أن تقول لشباب اليوم اترك عقلك جانباً وآمن بالله، ينبغي أن نحدثهم بلغة إيمانية ترضي العقول والقلوب.
أيها الشباب الأعزاء
في البداية ينبغي أن نعلم أنه لا يمكن إيجاد تفسير لمعنى الشر والألم والحزن في الدنيا مالم تتضح غاية الوجود وحكمة الخلق، ولا يمكننا ذلك دون تبلور تصورٍ صحيح للعالم، ووجود إيمانٍ جازمٍ بالآخرة، فمن أهم صفاته تعالى ” الحكيم ” أي صاحب الحكم و الحكمة على وجه الإتقان والإحكام فلا عبث في الوجود والخلق والدين يقول تعالى في الآية 115 من سورة المؤمنون ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ “، لقد عبّر القرآن الكريم عن العبث بثلاث كلمات مختلفة وهي : اللغو، واللهو، والسهو، ومن هذا المنطلق لا لغو ولا لهو ولا سهو في الخلق والوجود والدين.
في البداية أود أن أشير إلى أنه لا يوجد شر مطلق في عالم الوجود، فالشر ليس بكائنٍ في ذاته، ولا يمكن إسناده إلى الله تعالى، غير أنه لحكمته البالغة أوجد الشر بين الخلائق.. إذ كيف لنا أن ندرك النور لولا الظلام، أم كيف نعرف الحق لولا الباطل، أم كيف نفهم الخير دون الشر، لكن لا يمكن لأحدٍ بشكل من الأشكال أن يسند سبب أي ظلم أو وجود الباطل إلى الله تعالى، إذ يقول تعالى في ثلاثة مواضع مختلفة من القرآن الكريم ؛ الآية 49 من سورة الكهف ” وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا “، والآية 77 من سورة النساء ” وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ” والآية 46 من سورة فصلت “وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ” أما في الآية 30 من سورة الشورى يقول الله تعالى “ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ “، وأما حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقد نادى ربه قائلاً ” لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك ” وأما عبارة الحديث “… خيره وشره من الله” فمحمول على الإيجاد لا على الإسناد، ولو لم يخلق الله الشرّ على وجه الأرض لانعدمت الغاية من الخلق، وقد جعل الله إقامة الخير والعدل والرحمة، والقضاء على الشر والظلم غايةً لوجود الإنسان، وهل يحق لنا بعد هذا أن نقول لله سبحانه وتعالى لماذا خلقت الشر ؟ ولمِا لا تمنعه ؟ فلو لم يخلق الله الشرّ لمَا مُتِّع الإنسان بالإرادة والحرية.. ولمَا خُيّر الإنسان بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر.
إن حكمة خلق الله للإنسان والوجود والحياة ماهي إلا امتحان وابتلاء، فالدنيا دار ابتلاء وليس بدار الجزاء والحساب، وثمة أمرٌ لا بد من الإشارة إليه ألا وهو عدم تقبل هذا الامتحان وذا أخطر من خسارة الامتحان، يقول تعالى في الآية 2 من سورة الملك {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، أما في في الآية 168 من سورة الأعراف فيقول تعالى {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وفي الآية 35 من سورة الأنبياء يقول تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
كم من أمر قد يبدو شراً في ظاهره وفيه الخير العميم يقول تعالى في الآية 216 من سورة البقرة {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
إخوتي الأكارم
إن للأمراض والأوبئة التي نواجهها -أفراداً ومجتمعات- معانيَ وغاياتٍ وحكما وفلسفاتٍ تنطوي عليها، فالأمراض تخدم الغاية التي من أجلها خُلق البشر.. وهي مؤقتات إلهية تذكرنا بحكمة خلقنا فلولا المرض لما عرفنا قيمة الصحة والعافية، ولولا الخوف والهم والكدر لما عرفنا قيمة الأمن والأمان.
ولم تكن الأمراض مجرد تحذيرات إلهية فحسب، بل كانت رحمة لبعض عباده، وتكفيراً لذنوب بعضهم الآخر، ورفعاً لدرجات بعضهم، وتارةً تأتي الأمراض لتصون البشرية من مصائب أكبر، وأحياناً تكون مذكراً لأولئك الذين نسوا أنفسهم ونسوا الله جل جلاله، وقد تأتي لتظهر أنه لا قيمة للأموال والمناصب والرتب التي نقدرها كثيراً في حياتنا، وأحياناً تأتي لتجعلنا ندرك قيمة ما كنا نهملها كالصحة والعافية.. وهكذا جاء فيروس حقير ليلقن ذاك الإنسان – الذي أسر الطبيعة بثوراته المتتالية ونهبها بكل فظاظة، وهددها بالأسلحة الكيميائية التي اخترعها، وضيّق الأرض على البرآء والآمنين، وأخذ يتطلع إلى سبل السيطرة على الفضاء وكأن لم يكفه ما عاث من الفساد على الأرض – عبراً و دروساً كبيرةً .
إخوتي الأعزاء
من المؤكد أن الإنسانية ستسعى -ما بعد هذه الجائحة التي تعصف بها- حثيثاً عن معان جديدة كما حدث في الماضي، ونحن –المؤمنين- اليوم يمكننا تحويل هذه الأيام العصيبة والوباء الذي حل بنا والحجر الصحي إلى ميلاد جديد في حياتنا، إذ يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لاتقوم حتى يغرسها فليغرسها “ فاليوم هو يوم زرع الغراس التي بين أيدينا، زرع فسائل الرحمة في القلوب التي أهملناها.
أيها الشباب الأعزاء
هناك ثلاثة أنواع من الفراغ تدمر الحياة.. فراغ الوقت والعقل والقلب، فإن أنتم ملأتم هذه الفراغات فإنكم ستورِّثون من بعدكم عالَماً أكثر جمالاً وعدالةً.
أيها الشباب الأعزاء
املؤوا أوقات فراغكم؛ فأنتم شباب تسيرون على درب الحقيقة؛ فمثلكم لا يزج بحياته في عالم افتراضي، وإنّ من أسوأ ما قد يحدث للشباب أن يستهلك الوقت وينهك العمر من غير منفعة، والفراغ الثاني الذي يشكل خطراً على الشباب هو الفراغ العقلي والذهني، وإن أجلّ ما يُملأ به هذا الفراغ هو العلم والمعرفة والحكمة؛ فجدّوا السير وراء كل معرفة نافعة، والموضع الثالث الذي لا ينبغي أن تتركوه فارغاً هو القلب، فلا تملؤوا قلوبكم بحب زائلٍ، بل املؤوها بمحبة الله، وأحبّوا عبادَ الله جميعاً، ولننظر إلى الوجود والكائنات بعين الرحمة والمحبة ولا ننسى أنه بذكر الله وحده تطمئن القلوب.
وأنهي كلامي بتحذيرات وردت في سورة البلد؛ فقد تناولت هذه السورة وصايا القرآن للمؤمنين أن يجتازوا العقبات، وأن سبيل ذلك يكمن في التخلص من الأغلال التي تأسرنا، وتطهير القلوب من الكبر والحقد والكراهية، وأن نشارك ما نملكه في الأيام العصيبة مع الفقراء والمحتاجين، وأن نتواصى بالصبر والمرحمة.
وللتغلب على الصعوبات التي تعترض سبيلنا يتأتى بالتخلص من ثلاثة أمور:
الأول: التخلص من هوس القوة التي لا ترى قوة فوقها، قال تعالى في الآية 5 من سورة البلد {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}.
الثاني: التخلص من هوس الافتخار بإنفاق الثروات، قال تعالى في الآية 6 من سورة البلد {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}.
الثالث: التخلص من هوس اللامسؤولية، والذي يعتقد فيه صاحبه أنه لم يره أحد، قال تعالى في الآية 7 من سورة البلد: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}.
إخوتي الأكارم
في ختام حديثي أود أن أذكّركم بالآية 16 من سورة الحديد إذ يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. وأدعو الله خالقنا أن يجعل من هذه الظروف العصيبة بحق أولئك الذين فقدوا الرحمة من قلوبهم وسيلةً إلى لقاء الرحمة العالمية، وأن يسدل علينا بحرمة هذه الليلة المباركة براءةً من لدنه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
* رئيس معهد الفكر الإسلامي، رئيس الشئون الدينية التركي السابق.